صحيفة العرّاب

كيف رد المواطن إعتباره ؟!

 بقلم الاعلامي. بسام الياسين

{{ صديقي بطل القصة مات مبكراً مثل شتلة غضة…كان يبكي بكل لغات الارض،لكنه لا يجيد رسم ابتسامة على شفته…مضى ككل المعذبين في الارض حتى ان قبره لا يحمل شاهدة تدل على اسمه…لكل هؤلاء المقهورين في الحياة الفاتحة وعلى الحرامية اللعنة،وعلى من لا يلعنهم اللعنه }}}

ورث صديقي الطفر عن جده السابع.منذ ان عرفته وهو غارق في الديون من ارنبة انفه حتى قاع نعله. لذلك تراه يمشي متثاقلاً،كأن قيداً ثقيلاً يقيد رجليه كمحكوم بالاشغال الشاقة المؤبدة.في هذا الجو الكئيب الخانق ، لم يجد صديقي ما يُنفس به عن كُربه ويرُوّح بها عن نفسه الا بنفث السجائر من انفه وفمه.ادخنة تحرق عمره،وتُسرطن رئتيه بمواد سُمّية،وتعكر دمه بالنيكوتين والقطران والكربون…هو يعرف معرفة يقينية ان فعلته ليست سوى عملية انتحار بطيئة وغير رحيمة،ولا تختلف عن مدمن المخدرات او المسكرات الا بالوسيلة. خاصة ان الافراط المفرط في التدخين،اصبح ديدنه طوال يومه وعنوانه الذي يتميز به،كأنه مدخنة آدمية حتى يُخيل للرآي انه لا يستعمل القداحة الا للسيجارة الاولى،بعدها تتوالى اشتعال السجائر واحدة من اخرى كحريقة دبت في غابة متشابكة الاشجار… شجرة تُسْلِمُ نيرانها الى ما بعدها .

السيجاره توأمه السيامي.هما لا ينفصلان عن بعضهما ابداً…لذا تراه دائم السعال،وحينما تداهمه نوبة حادة تكاد ان تخلع عظام صدره.ساعتها ينفلت لسانه بشتائم سوقية ـ من تحت الزنار ـ لاعناً الانجليز الذين جلبوا التبغ من مستعمراتهم النائية،و نشروا عادة التدخين السامة لجني مكاسب مادية،وعندما يهدأ قليلاً ،يتمتم قائلاً :ـ لم يكتفِ اولاد الكلب الانجليز بتمزيق الوطن العربي باقترافهم جريمة سايكس بيكو بل اضافوا اليها جريمة زرع السرطان اليهودي في فلسطين،وسرطان الرئة في صدورنا. اما اليهود ـ لعنة الله عليهم وعلى من والاهم منذ ان هبط سيدنا آدم على الارض الى صياح الساعة،لانهم وراء كل مفسدة،وهم اصحاب فكرة الكمبيالة،وطرحها للتداول من اجل الحصول على الاموال الربوية بطريقة شرعية.

سبب نقمته انه دائم الدوارن في فلك الكمبيالة.هي قدر محتوم دُمغ على جبينه،منذ صرخة خروجه من رحم امه الدافيء الى صقيع العالم.ما يقض مضجعه اكثر ، عدم قدرته على الخروج من مدارها ،فقد فشلت محاولاته العنيدة كسر حصارها حتى استسلم معزياً نفسه بسخرية :ـ على ما يبدو انني خلقت منذوراً للشقاء،و انني طاريء على الوجود كلاجيء استوطن طرف المدينة،و اقام في خيمة ممزقة تعصف بها الرياح من اركانها الاربعة لاقتلاعها،فلا الارض تقبل به ولا الناس تتقبله… ضغوط كاوية تكالبت عليه، فسحقت اعصابه حتى تكلست مشاعره وتبلدت عواطفه. لذلك فالفصول عنده متشابهة.تجده لا يستمتع بشم وردة ربيعية،ولا بمنظر هطول ثلوج بيضاء تُسر الناظرين في كوانين الباردة. في الربيع يُصاب بحساسية الزهور حيث انه يتحاشى الروائح العطرية وطلع الاشجار،وفي الشتاء تعصف به كآبه حادة…سؤاله الموسمي كيف يُؤمّن ” جرة غاز او تنكة كاز ” لعياله ؟!. ناهيك ان مشكلة تراكم الديون حرمته من نعمة التأمل في جماليات الحياة وتقاطيع اولاده البريئة ، حيث ولدّت عنده ” فوبيا مزعجة”…فكلما طرق بابه طارق ظن انه دائن،وفي الشارع يُخيل اليه ان كل من يسير خلفه شرطي من التنفيذ القضائي بلباس مدني ،يتعقبه للامساك بتلابيبه.

بالتوازي مع حالة الخوف التي دمرت اعصابه ، برزت عنده لقلة ذات يده،متاعب نفسية داخليه آخرى اشد خطراً من سابقاتها ، اقلقته وشككته بذاته،سعى على الدوام الى سترها والتكتم عليها حتى عن اقرب المقربين له… تلك هي ” حالة الوحام ” التي تستحوذ عليه بصورة كلما مرَّ بالاسواق،كاشتهاء جارف للحلويات المعروضة في واجهات المحلات ، والتلمظ حين رؤية الفاكهة المنضدة على البسطات بطريقة هندسية.الفضيحة الكبرى ، سيلان لعابه لمنطر الدجاج المحمر وهو يدور على الماكينات…اما ما يتجنبه ،ويحرص على الابتعاد عنه رائحة شواء اللحمة. كارثة تضربه،فيصيبه ما يصيب المصابين بـ “مرض التفول”، اولئك الذين يشمون رائحة زهر الفول من تكسرٍ في كريات الدم الحمراء،وسرعة التنفس،وارتفاع مفاجيء في درجة الحرارة.

حياته لم تكن مأساوية بل مأساة كالاساطير اليونانية…..مما هو منقوش بذاكرته،ما روته امه له،وهو بدوره يرويه لإصدقائه اللصيقين به :ـ ان “الداية” ـ القابلة غير القانونية،رفضت سحبه عند ولادته العسيرة،الا بعد ان قبضت اجرتها سلفاً،لمعرفتها ان اباه على الحديدة ويماطل في دفع حقوق الناس.ولما لم يكن والده يملك يوم ولادته مليماً ، اضطر صاغراً ان يعطيها كمبيالة مستحقة الدفع آخر الشهر،موعد قبض الراتب.ما يذكره ايضاً ، انه اضطر الى توقيع كمبيالة لشراء بدلة جديدة،ليذهب بها الى الوزارة عند بداية عمله،فلا يعقل ان يداوم في وزارة سيادية في اليوم الاول بقميص و بنطال من مخلفات ايام الجامعة.في حين ان “الهوامير” ترتدي البدلات الايطالية والفرنسية. فوق هذا يبدلون في كل يوم بدلة لتتناسب الوانها مع سياراتهم الفارهة .

ذات السيناريو تكرر يوم عرسه،ارتدى بدلته اليتيمة ، و اضطر لتوقيع عدة كمبيالات بدل تأثيت بيته المستأجر.هكذا ادمن تعاطي الكمبيالات في كل مناحي حياته.في ساعات الزنقة ، وحالة العجز عن السداد،يقوم بترحيل الذمم المعلقة في عنقه للشهر المقبل مع الفائدة القانونية الى ان تراكمت عليه الديون،وغرق في لُجتها…هكذا امضى ايام عمره على القروض والمساعدات كالحكومات الاردنية… لم يهنىء يوماً في تاريخه بلقمة… اللهم الا انه يشعر ببعض السعادة في عيد الفطر،عندما تصله ” صناديق المعونات في رمضان،وقليلاً من مال الفطرة صباح العيد…كذلك في عيد الاضحى عندما تتقاطر عليه اكياس اللحمة من الموسرين،اما الفرحة الكبرى حين يُقطّع الذبيحة التي “زرقها له” زوراً قريب له يعمل في لجنة توزيع الاضاحي في المحافظة تحت اسم ارملة.

الظروف القاهرة،شكلت في اعماقة فكرة قهرية استحواذية مسيطرة،تعرف في علم النفس بالوسواس القهري.لا يستطيع الافلات منها او الفكاك من تأثيرها على سلوكه،لدرجة ان اصبحت تطارده كدائنيه،تلك التي يطلق عليها تفكهاً عقدة الفقر الابدية. الفكرة الملحاحة التي تنقر دماغة طيلة نهاره،وتؤرق ليله…. لماذا لا يدفنه ذووه واقفاً يومَ موته بدلاً من دفنه مبطوحاً على جنبه ؟!. فطريقة الدفن بطحاً كما يعتقد نتيجة لعُقده النفسية التي تستولي عليه،هي تكريس لحالة الانكسار التي عاشها طوال حياته.فمن منظوره الشخصي يرى ان تكريم الميت لا يكون بالقهوة المُرة التي تزيد الموت مرارة ، ولا بالمناسف المجللة باللحوم المجمدة،ولا حتى بكلمات العزاء الببغاوية المحفوظة عن ظهر قلب منذ جريمة دفن قابيل اخاه هابيل… بل التكريم يكون بدفن الميت واقفاً حتى يسترد اعتباره تحت الارض الذي فقده فوقها.