صحيفة العرّاب

سامح المحاريق يكتب : الستوك كاراكتر الأردني، وكمشة أسئلة وهموم!

 كتبت بالأمس عن المسلسل أو البرنامج المجهض الذي كان يفترض أن يقدمه (المؤثر) يزن النوباني على شاشة التلفزيون الأردني، وكنت أتوقع بعض التعليقات الصعبة والانتقادية، وهذا طبيعي، والبعض قام باستغراب موقفي في الدفاع عن النوباني، ودعوتي لأعود للحديث عن ثوابت المجتمع، وما إلى ذلك، وكل ذلك طبيعي، وأتفهمه، ولكن لم أتفهم تعليقًا على تعليق يستغرب أن يدعى النوباني للتواجد على شاشة التلفزيون بينما يهمل (زلم ثقالة) مثل محمد العبادي. 

أحب أن أقول أنني لا أتذكر أي دور للأستاذ محمد العبادي، أتذكر أسامة المشيني، داود جلاجل، ربيع شهاب، عبير عيسى، شفيقة الطل، والرائع موسى حجازين، وربما يتعلق ذلك بطريقة أدائه أو ذائقتي الشخصية، والموضوع الصغير الذي نتحدث فيه كلامًا كبيرًا يقتضي التوضيح أن الفكرة هي وجود أو عدم وجود قناعة بتنوع أي مجتمع وفي فكرة القبول لذلك التنوع. 
زلم ثقالة، عندما طالعت صورة العبادي أدركت أنه فعلًا (زلمة ثقيل) يمتلك الكاريزما التي تجعله أمينًا عامًا لوزارة أو عميدًا لكلية، ولكن هل المجتمع، أي مجتمع، يقوم فقط على الزلم الثقالة؟ 
 
يمكن اليوم أن نعرف لماذا لدينا مليون عامل وافد في وقت لدينا فيه بطالة، لأن مجتمعنا بإصراره على وجود نموذج قياسي ومثالي يقمع فكرة التنوع ويجهض التمثيل الطبيعي للمجتمع وقواه، فالمجتمع الذي لا يمتلك ميكانيكيًا جيدًا أو طباخًا ممتازًا لا يمكن أن يكون لأي منصب آخر من سعادة أو عطوفة أو معالي أي قيمة حقيقية، لأنه في الأساس مجتمع ينظر إلى صور الناس لا إلى الناس، إلى الشكلي لا الجوهري، إلى السلعة لا الإنتاج. 

 

المجتمع ظاهرة إنسانية، والإنسان متعدد الأوجه والطبقات، وحتى لو افترضنا أن دور الفن هو الارتقاء بالذوق العام (وكم تبدو هذه عبارة مضللة، فعبد الحليم حافظ رشقوه بالطماطم عند ظهوره)، فالإنكار والتجاهل لوجود فئات في المجتمع لا يؤدي إلى إدانتها مثلًا، وبالتالي تقويمها، ولذلك يغضب الكثيرون من فيلم أو مسلسل لأنه لا يقدم القيم الاجتماعية! ليقع الجميع في التناقض الذي تدحضه وثائق المحاكم مثلًا. 
المشكلة في الفن في الأردن أن مخزن الشخصيات محدود، وبالتالي، سيكون محدودًا وغير جذاب وليست له قيمة تسويقية، هو لا يقدم المجتمع بحيويته في القاع ويتناسى وجود جزء من المجتمع أصبح معولمًا بالضرورة ومن جميع الفئات بصورة متساوية. 
 
لنناقش بعضًا من أوهامنا الوطنية! 
 
زمان يعني قبل عقود من الزمن كان الطير/ الدجاج هو الدليل على الثراء والكرم، فالدجاج لم يصبح متوفرًا إلا بعد تحويل تربيته إلى صناعة، ولذلك فمعظم الوجبات الوطنية في مختلف البلدان لا تضم الدجاج في مكوناتها، كان غاليًا بطريقة كبيرة، ومع ذلك في الأردن وفي مناطق الشمال كان أهلها يقدمون الدجاج في وجبة عبقرية تسمى المكمورة، ولكن لأن المنسف يظهر فجأة ويقرر البعض أنه وجبة وطنية ويجعلونه شبه مقدس ويبلغ به الاهتمام مبلغًا يقارب الهوس، فإن لقاءات تلفزيونية تدور حول المنسف، وطفل ظهر مؤخرًا ليحصل على حصة من كعكة السوشال ميديا كان موضوعه الرئيسي وشبه الوحيد، المنسف! 
 
هذه حالة لا توجد في أي دولة في العالم، ومع أنني من المتحمسين لدراسة الطعام كمدخل لفهم الشعوب وتقاليدها، ومع أنني من عشاق المنسف، ومن عائلة تنتج لبن الجميد، وكان جدي (القريب، والد أبي) يذهب للبحر الميت ليحصل على الملح الذي يصنع منه الجميد الذي كان من مصادر الدخل الأساسية للعائلة، فإنني أضيق طبعًا بأن أجد أغنية (منسف ع جاج ما ينفع أردنية!) لماذا؟ هل وصلت درجة التصنيف والهروب بصورة موحدة وقياسية إلى هذه المرحلة؟ 
من أجوائي العائلية أيضًا، تصحيح من والدي عندما وصفت القهوة بأنها باردة، بأن ذلك لا يجوز ولا يصح، فالقهوة (بنت أجاويد) والوصف الصحيح هو فاترة، ومرة أخرى كنت أتقدم لثيرموس القهوة في مناسبة عزاء، وأخذته بيدي اليمنى لأقدم الفناجين باليسرى، وهون كان التصحيح العلني، العكس هو الصحيح، لماذا؟ أليست السيطرة على الثيرموس الثقيل أفضل باليد اليمنى...
 
 هذه التوافقات الاجتماعية الثقيلة لم تجب طبعًا على سؤال مركزي بالنسبة لي، لماذا لا نصنع الثيرموس مع أننا شعب يحتاجه لأنه يرتبط بطريقتنا في شرب القهوة، لماذا نترك هذه المهمة للصينيين. ونكتفي بأنه ما لهذا خلقنا؟
 
نحول المال إلى مصانع في الصين، وثمن القهوة إلى البرازيل، ويستفيد الكثير من التجار والوسطاء، ولكن وإذا كنا نبحث عن الأصالة، هل يمكن لأحد أن يجيبني ما هو المشروب الذي كان يتناوله أجدادنا قبل أن تأكل واحدة من الماعز (حسب الأسطورة) من شجرة البن؟ وما الذي كنا نشربه قبل أن يستقدم الإنجليز الشاي ويضعونه أمامنا؟ لماذا أغفلت كتب التراث أن تتحدث عما كان يشربه الصحابة مثلًا، بعد تحريم النبيذ، كانوا يشربون تنويعات هائلة من الألبان، وعليه، لماذا ليست لدينا الثروة الحيوانية التي تجعلنا مكتفين حقيقةً من الألبان، ولماذا لا نطور المشروبات القائمة على الألبان لتصبح جزءًا من مفردات حياتنا، بدلًا من أن نخترع طقوسًا للقهوة ونضيفها لقاموس التصنيفات الهوياتية؟ 
السؤال أيضًا، لماذا يفهم الجميع في التقاليد ويتحدثون فيها، بينما لا أحد يتحدث في قوانين الديناميكا الحرارية أو الهندسة المستقاة من الطبيعة التي كان أجدادي يفهمونها عندما يختارون مغارة ليحولوها إلى مكان يصلح للسكن، أو يأخذونها في الاعتبار عند البناء للسكن قبل أن نفتتح عشرات من كليات الهندسة التي ينشغل طلبتها بأن يكونوا غانمين وأجاويد بينما لا يطالبهم أحد بتوطين صناعة الثيرومس الحراري الذي أخذ مكان الدلة الخفيفة والصغيرة والتي كانت تصلح للحمل باليد اليسرى، ولكنها لا تحفظ القهوة ساخنة لفترة طويلة، فكان ذلك يستلزم أن يكون ثمة إنسان يجلس إلى منقل النار ويحمس حبوب البن، ولأن العبودية انتهت، ويفترض أن عمل الإنسان أكثر قيمة من هكذا مهمة تافهة، فإننا أصررنا على الاكتفاء بإعادة إنتاجه في مدخل بعض الفنادق ليمثل أنه يصنع القهوة التي قدمت من خلال خط إنتاج حديث (ومستورد) على الطريقة التقليدية أمام السياح. 
 
خلونا نطلع من إنتاج الشيوخ والناس الثقالة، لنصنع مجتمعًا حقيقيًا وفاعلًا ومنتجًا، يكون فيه أستاذ المدرسة مقدمًا على صاحب العطوفة في الجاهات، مع أنها هي الأخرى، ليست سوى أحد وجوه التمثيلية الكبرى التي نعيشها، وللأسف من غير محتوى حقيقي. 
 
سأظل في معركتي هذه التي بدأت منذ فترة إلى أن نصنع ثيرموس بجودة عالية في الأردن، وحتى نصنع طائرة مسيرة ذات كفاءة تجعل الاقتراب من الأردن يشبه مغامرة روسيا في أوكرانيا، وعدا ذلك، لا أجاويد ولا غيره.