صحيفة العرّاب

ليس خروجا عن الدور، بل عودة إليه

 مالك العثامنة

 

حين يتحدث وزير الداخلية عن تقليص الجاهات واختصار العزاء، فلا ينبغي أن يُفهم ذلك كتطفل على العادات، بل يجب أن يُقرأ كعودة واعية إلى وظيفة الدولة في تنظيم الشأن العام، والغرابة التي أحدثتها تصريحات وزير الداخلية تكمن في فهمنا الخاطئ طوال عقود لمفهوم وزير 'الشؤون الداخلية' للدولة.


الوزير مازن الفراية لم يُصدر تعميماً، ولم يفرض قراراً، بل طرح مبادرة. والمبادرات، في الدول التي تريد أن تنتقل إلى الحداثة الاجتماعية بهدوء، تبدأ عادةً باقتراح، وتُنضجها نقاشات النخب والمجتمع، قبل أن تتحول إلى أعراف جديدة.

الفراية قال بوضوح إن العزاء في الأردن ينبغي أن يُختصر ليوم واحد فقط، وإن تقديم الطعام يقتصر على أهل المتوفى لا المعزّين، وإن الجاهات ينبغي أن تتقلص من حيث العدد، وألا تُحوَّل إلى مناسبات سياسية يُدعى فيها وزراء ومسؤولون سابقون لترؤسها، ودعا إلى ميثاق شرف اجتماعي يُناقَش في المحافظات وتتم صياغته بالتشارك مع الناس، وليس من فوق رؤوسهم.

هذه ليست 'شطحة وزير' كما وصفها البعض، بل ممارسة عقلانية لوزير مسؤول عن السلم الأهلي، وعن تنظيم التجمعات العامة، وعن ضبط الفضاء المشترك الذي يتقاطع فيه القانون بالعُرف، الوزير لم يتدخل في الدين، ولا في الطقوس، بل في الأثر العام المتضخم لهذه المناسبات التي باتت، في بعض الأحيان، تخرج عن مقاصدها الاجتماعية النبيلة، وتتحول إلى سباق في المظاهر، ومصدر لإرهاق الناس، بل وتهديد حقيقي في حالات إطلاق النار، أو الاستعراض العشائري، أو تعطل الحياة في بعض الأحياء، وهذا يدخل في باب الأمن المجتمعي نفسه.

من يُطالب الدولة بالإصلاح الإداري والسياسي، لا يمكنه أن يغضب حين تبدأ الدولة بطرح سؤال الإصلاح المجتمعي، ومن يطالب بالحد من الكلف الاقتصادية والاجتماعية لا يمكنه أن يعارض مبادرة هدفها التخفيف من عبء المجاملات الثقيلة، التي صارت مفروضة عرفاً لا اختياراً.

الأهم من المبادرة، هو أنها تعيد تعريف وظيفة وزير الداخلية، الوزير ليس فقط من يُشرف على الأمن، بل من يُنظّم العلاقة بين المجتمع والدولة، وهو ليس فقط من يُصدر التعليمات، بل من يُحرّك الحوار الوطني حول أولويات الناس وسلوكهم في المجال العام.

من يقول 'شو دخله؟' كأنه يقول للدولة: لا تقترب من المجتمع، ولا تلمس عاداته، حتى لو تحولت إلى أعباء. وهذا بالضبط ما يُبقي الدولة على الهامش، ويُبقي الفوضى مشرعنة باسم التقاليد.

مع كل حزم الإصلاح والتحديث نحو دولة مؤسسات وقانون حديثة تحتاج الدولة إلى وزير داخلية يؤمن بأن الأمن يبدأ من وعي المجتمع، لا من الخوف منه، وما قاله الوزير مازن الفراية كان خطوة أولى في هذا الاتجاه، وربما ما نحتاجه الآن، ليس سجالًا منفعلاً، بل نقاشًا وطنيًا هادئًا نُقرر فيه: هل نريد فعلاً أن نخفف على أنفسنا، أم سنُبقي العادات أقوى من الدولة، وأثقل من الناس، وأعلى من المنطق؟.

'الغد'