صحيفة العرّاب

حديث ما بعد الكرسي .. مسؤولون سابقون في مواجهة البودكاست

 

أ.د. خلف الطاهات

 

في الآونة الأخيرة، بات المشهد الإعلامي الأردني يعيش ظاهرة لافتة، انفتاح عدد من كبار المسؤولين السابقين على البودكاستات، سواء عبر منصات محلية أو منابرغير أردنية، يروون فيها تجاربهم ويكشفون كواليس من مراحل توليهم المسؤولية، أو يتحدثون بصراحة غير معهودة عن محطات في مسيرتهم. هذه الظاهرة التي تبدو في ظاهرها بادرة شفافية وانفتاح، سرعان ما تحوّلت إلى مادة جدلية في الفضاء الرقمي الأردني، حيث تُجتزأ التصريحات وتُعاد صياغتها على نحو يُشعل النقاش ويستفز الرأي العام.

الزميل سمير الحياري، ناشر موقع عمون، لامس جوهر هذه الإشكالية حين كتب متسائلًا عبر ادراج له امس على صفحته على الفيسبوك عن سر راحة المسؤول الأردني في الحديث إلى وسائل غير أردنية، بينما يتحفّظ أو يعتذر حين تعرض عليه صحيفة محلية إجراء حوار موسّع.

يقول الحياري:
'يرتاح المسؤول الأردني وهو يطلق العنان لنفسه في حوار مع وسيلة غير أردنية، بينما يتملص حينما تعرض عليه صحيفة محلية الظهور عبر صفحاتها.' ويتابع بمرارة ساخرة: 'يا أخي إبكِ في أحضاني، أدفأ لك وأضمن لجودة سرك، ولا تفضح حالك عند من لا يعرف وزنك الحقيقي!'

هذه المفارقة تكشف عمق أزمة الثقة بين المسؤول والإعلام المحلي، وربما بين المسؤول والمجتمع ذاته. فبدل أن يرى في المنبر الوطني مساحة آمنة للبوح والتقييم، يهرب إلى حضن الآخر، باحثًا عن “التفهم” أو “الاحتفاء”، لكنه بذلك يضع نفسه، من حيث لا يدري، في مرمى التأويل وسوء الفهم والاجتزاء.

والمفارقة العجيبة، بل الصادمة، أن هؤلاء المسؤولين السابقين، الذين يظهرون اليوم بانفتاح واسع على الإعلام ويتحدثون بحرية مدهشة في البودكاستات، هم أنفسهم الذين كانوا، في زمن توليهم المسؤولية، يلوذون بالصمت وقت كان يجب أن يخاطبوا الرأي العام، خصوصًا في لحظات الأزمات والتوترات الوطنية.

ذلك الصمت الذي كان يُفسَّر حينها تارة بالحذر، وتارة أخرى بالتعالي، بات اليوم يتحول إلى سيل من التصريحات والتبريرات والسرديات الشخصية، وكأن الانفتاح على الإعلام لم يكن ممكنا إلا بعد مغادرة المنصب. إنه سلوك غريب وعجيب في آن واحد: أن يجد المسؤول نفسه بعد التقاعد أكثر استعدادا للكلام مما كان عليه حين كان الكلام واجبا ومسؤولية وطنية.

ما يزيد الطين بلّة أن مقاطع كثيرة من تلك اللقاءات تُختزل في ثوان معدودة لتتحوّل إلى مواد “تريندية”، تُغذي الجدل وتُربك المتلقي. وهنا يصبح لزاما على المسؤول نفسه ، لا غيره، أن يتدخل سريعا لتصويب الصورة، عبر منشور توضيحي فوري على صفحاته الشخصية. فالمسؤولون، سابقين وحاليين، كما قيل، اكثرهم يقضون وقتا على السوشيال ميديا أكثر من دوامهم في المكاتب، وبالتالي لا عذر لهم في الصمت.

إنّ اجتزاء التصريحات لا يواجه بالاستياء أو التجاهل، بل بالشفافية وسرعة التوضيح. فكل دقيقة يتأخر فيها الرد، تُفسح المجال لتكاثر التأويلات وتضخيم المغالطات. وهذا ما يجعل من “البوست الفوري” أداة دفاعية لا تقل أهمية عن البيان الرسمي في زمن الإعلام الفوري.

الخبير القانوني الدكتور رمزي الدبك ذهب أبعد من البعد الأخلاقي، إلى الإطار القانوني، مؤكّدًا أن للمسؤول العام التزامًا مزدوجًا: توضيح تصريحاته عند تشويهها، وحماية المصلحة العامة من التضليل. ويستند في ذلك إلى قانون حق الوصول للمعلومات الذي يُلزم الشفافية، وإلى قاعدة قانونية أصيلة مفادها أن “من أدلى بالتصريح عليه توضيحه”. ويرى الدبك أن الصمت الإداري يُفسَّر كإقرار ضمني بالمحتوى المنشور، داعيًا إلى إصدار “بروتوكول الاستجابة السريعة” الذي يُلزم المسؤولين السابقين بالرد خلال 24 ساعة على أي اجتزاء لتصريحاتهم، وإلا عُدّ صمتهم تقصيرًا في الواجب. فالصمت، كما يقول، “ليس حقًا، بل إهمال في الواجب الوظيفي.”

ومع أهمية أن يتحدث رؤساء الوزراء السابقون ورجالات الدولة إلى الناس، وأن ينقلوا خبرتهم في إدارة الدولة ومعرفة موازينها، فإن طبيعة المنابر التي يختارونها يجب أن تراعي رمزية الموقع الذي شغلوه. فالحوارات الفكرية في الجامعات والمنتديات الوطنية من نقابات واحزاب تبقى أكثر عمقًا وأقل عرضة للتأويل من المقابلات “التريندية” التي تلهث وراء المشاهدات.

ليس من الخطأ أن يتحدث المسؤول السابق؛ بل الخطأ أن يتحدث بلا وعي بأثر كلماته، أو عبر منبر لا يدرك خصوصية الحالة الأردنية. فالكلمة، حين تخرج من فم رجل دولة، لا تُحسب بعدد المشاهدات، بل بميزان المسؤولية والرمزية الوطنية.

إننا لا نرفض البودكاست، ولا نعيب المصارحة، لكننا ندعو إلى أن تكون الشفافية مدروسة، والبوح محسوبا، وأن تُستعاد الثقة بالإعلام المحلي كبيت أول لا كمنفى أخير. فحين يبكي المسؤول، فليكن بين أهله… لا أمام من لا يعرف وزنه الحقيقي
 
عمون