صحيفة العرّاب

أزمة الحنين الملتبس والخلل الهيكلي في الاقتصاد الأردني

 سامح المحاريق

 

ينشر أحد المعلقين على الأرقام التي نشرت من وزير المالية بخصوص المديونية تعليقًا يحاول أن يحصر فيه المشكلة في الخمسة وعشرين عامًا الماضية، فيقول أن المديونية كانت حتى سنة 2000 ستة مليارات دينار أردني، وكأنه يريد القول بأن تصاعد المديونية بدأ منذ تلك الفترة.


المشكلة أن وزير المالية يغفل تقديم حجم الناتج القومي ومؤشر نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة التي تجعل السنوات الخمسة والعشرين الأخيرة أفضل من السنوات التي سبقتها. ولا يبدو أننا في الطريق إلى أزمة مشابهة لما حدث في 1989 عندما وصلت المديونية إلى 220% من الناتج المحلي.

لماذا وصلنا إلى تلك الأرقام القياسية في نهاية الثمانينيات، خاصة وأن الأردن كان يتلقى معونات تصل إلى ربع موازنته في السنوات الأولى من الثمانينيات، وهو ما أدى إلى توسع كبير في الإنفاق لتصبح الحكومة في موقع قيادة الاقتصاد في معظم القطاعات، ويراوح عدد موظفي الحكومة نسبة 40% من إجمالي العمالة في الأردن، قياسًا بمعدل يقل عن 20% في الدول المتقدمة اقتصاديًا، وحالة الأردن ليست غريبة عن سياقها العربي، بل وكانت استيعابًا لتحديات مستوردة وتحديدًا من النموذج المصري الذي حملته ثورة 1952، وحتى 1970 كان يتم استيعاب جميع الخريجين في مصر، ضمن اقتصاد الحرب، وبتكلفة مرتفعة نسبيًا ما زالت مصر تدفع ثمنها، ولأن الأردن كان عليه أن يقدم شيئًا من نموذج الدولة الراعية يشابه ما يقدم في مصر وسوريا، أو الريعية كما يقدم في دول الخليج، كانت المعادلة تستهلك الموارد بصورة نهمة.

إن فاتك الميري اتمرمرغ في ترابه، هكذا نقلت المقولة التراثية في مصر، ولكنها مع الوقت لم تعد صالحة، فالحكومات يفترض أن تراقب وتنظم، وحتى لو دخلت الإنتاج ففي قطاعات معينة وذات أهمية استراتيجية، ولكن الميري يتحول إلى ثقافة عامة مع القوة الناعمة المصرية، والناس لا يريدون أن يغرسوا أقدامهم في الأرض أو يعودوا إلى منازلهم بأصابع تصبغها الشحوم العنيدة.

نموذج الحراك الاجتماعي في الأردن تحول إلى العلاقة مع الدولة والوظيفة العامة، بابه التعليم والأردني مستعد أن يبيع أرضه وأن يستدين من أجل أن يتحقق حلم التعليم لأبنائه، ولكن الوظيفة العامة في توسعها خلقت تناقضين جوهريين، الأول يتعلق بإنتاجية القطاع الخاص واللجوء لاستيراد العمالة الأجنبية، ومن أين؟ من مصر نفسها، والثاني، هو لعبة الكراسي الموسيقية التي جعلت من كثير من المنتسبين إلى القطاع العام ضحايا لنمطه وشروطه بدلًا من أن يكونوا مستفيدين منه.

توجد أسباب أخرى، مثل النمو السكاني، الطبيعي، وهو ما يعبر عن نفسه في معدل مواليد يزيد عن سبعة أطفال للمرأة الواحدة في 1980، والمصطنع، نتيجة الظروف السياسية، ومع أن استيعاب الزيادة السكانية يحدث مع الوقت من خلال تعديل السوق وهيكله والعلاقات داخله، فمثلًا يعتبر خروج اللاجئين السوريين من الأردن تحديًا للسوق ومعدلات الاستهلاك وبالتالي سيثؤثر سلبًا على التركيبة، ومع ذلك سيحدث التصحيح خلال فترة من الزمن.

ما لم يحدث تصحيحه ولا يمكن أن يحدث هو توقف الحكومة عن التشغيل المفرط والزائد عن الحاجة، وبالتالي أصبح الوضع مشابهًا للفرملة المفاجئة، وما يشكل الوسادة الهوائية في هذه المرحلة هو التدابير التي تتخذ من أجل المحافظة على الاستقرار المالي، وخاصة قيمة الدينار الأردني.

التصحيح المأمول كان يفترض أن يتم على مستوى استعادة القطاع الخاص وتمكينه وتعزيز تنافسيته من ناحية، وعلى مستوى جذب الاستثمارات من ناحية أخرى، وهي استثمارات كان يفترض أن تكون بقيمة مضافة تؤدي إلى كعكة أكبر من أجل حصص أفضل، فنقل ملكية الأسهم في المصارف لا يعتبر استثمارًا من هذه الزاوية.

مسألة أخرى، ما الذي تفعله كل الأموال في المصارف، نسبة الودائع الخاصة بالأفراد عالية جدًا بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي قياسًا بدول أخرى، فلماذا ذلك العزوف عن الاستثمار وحتى عن التوسع في الإنفاق والاقتناء على مستوى الأردنيين، على الأقل لتحرير سيولة تضخ في السوق وتمنح حيوية للاقتصاد.

في 2008 كانت المديونية إلى الناتج المحلي أقل من 60% مع نسب نمو تجاوزت 8% في العامين السابقين، ثم بدأت آثار الأزمة المالية العالمية، وما زال برجي السادس شاهدين على أثرها الذي حدث، وبعد ذلك أتى الربيع العربي 2011 والجميع يعرف التفاعلات التي لحقته، وأزمة كورونا والحرب على غزة، وارتفاع أسعار الفوائد الذي أدى إلى تشوه في السيولة المتوفرة للإنفاق والاستهلاك الكلي، هذه أسباب تبرر الوضعية القائمة، ومع ذلك توجد أخطاء كثيرة وكثيرة جدًا، ولكن ليس إلى الدرجة التي تدخلنا في الحنين الملتبس إلى عالم مضى وانطوى ولا يمكن العيش فيه، هو لم يصبح ماضيًا في الأردن وحده، لكن في العالم كله، ببساطة تغيرت أنماط الحياة، اختلفت معادلة الإنتاج والتجارة الدولية.

يتوسع الخلل في التخطيط الاقتصادي بين ما يجب تطبيقه من مصارحة ومكاشفة تختفي أمام شعبويات مجلس النواب، والتنافسية داخل المحاصصة بدلًا من الحديث الواقعي عن مسألة حجم الاقتصاد الذي يجب أن يشهد نموًا كافيًا وتوزيعًا عادلًا للتكاليف والعوائد.

الطريق إلى إصلاح اقتصادي هيكلي ما زال ممكنًا حتى اليوم، ولكنه يحتاج إلى حديث لا يعجب الكثيرين، فمن يستطيع أن يقوله، وأن يفصح به، خاصة أن الكثيرين يصرون أيضًا على القراءة الخاطئة، وعلى مقارنات لا يمكن إلا أن تعتبر حنينًا ملتبسًا وانتقائياً وغير منتج في النهاية.