أيمن توبة
تحظى مهنة التعليم، التي تعد رسالة تربوية واجتماعية، باهتمام كبير من قبل سائر فئات المجتمع، من حيث اتصالها بحاضر الأمة ومستقبلها ومضمونها الأخلاقي الذي يحدد مسارها المسلكي. ولا شك أن المعلم المؤهل المحب لعمله يمثل قدوة حسنة في المجتمع، وهو، وقد «كاد ان يكون رسولا» يؤدي مهمة جليلة ويحمل مسؤولية عظيمة في إعداد النشء والمساهمة الأساسية في تكوين المستقبل من خلال رجاله المنشودين، طلاب اليوم.
وانطلاقا من قول رسولنا المعلم محمد صلى الله عليه وسلم «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه»، فان المطلوب من المعلم أن يدخل حب العلم في نفوس الطلبة، ويؤسس فيه الإقبال على طلبه والاجتهاد في تحصيله بأيسر السبل وأحبها الى النفس وأوقعها في العقل والوجدان.
ومعلوم أن فاقد الشيء لا يعطيه، فالجاهل لا يستطيع أن ينفع بعلم، والضعيف لا يقدر أن يعين بقوة، وأنى للمعلم أن يرقى بالمتعلم، وأنّى للمربي أن يرتفع بالمربى، إذا لم يكن له ما يسعفه من رصيد القوة في العلم والأمانة والخلق.
في هذا العدد تسلط «المواجهة» الضوء على قضية خطيرة لها ما لها من تأثير كبير في الفرد والأمة، وهي مشكلات المعلمين في بلدنا: ولا يخفى أن هناك مشكلات عديدة تواجه المعلم في مدارسنا، منها تدني الراتب والاكتظاظ في عدد كبير من المدارس وعدم ملاءمة الأدوات المدرسية، وفقدان المعلم لهيبته أمام الطلاب التي يعزوها كثيرون الى القوانين الصارمة التي وضعتها وزارة التربية والتعليم وهي منع اي شكل من اشكال العقاب التأديبي للطالب. وفي هذا الصدد يشير معلمون الى أن الآليات التي وضعتها وزارة التربية والتعليم كبديل لوسائل العقاب غائبة أو مُغيّبة عن مدارسنا، ما يجعل النظريات والوسائل التعليمية الحديثة عصية على التطبيق عمليا.
ونسأل هنا: كيف للمعلم ان يعطي ويبدع ويؤدي رسالته التعليمية وهو يعاني الامرين جراء تدني راتبه، وغلاء المعيشة؟.. وأي عطاء «رسولي» يرجى منه وهو يرى مهنة التعليم قد فقدت قدسيتها وفقد المعلم هيبته جراء الضغوط التي يتعرض لها، والتي تُسأل وزارة التربية والتعليم عنها أولا.
(المواجهة) التقت مجموعة من المعلمين وتحدثت معهم حول المعيقات التي يواجهونها:
الرواشدة: كيف للمعلم ان يعيش بدخل معدوم؟
طارق الرواشدة معلم قال (للمواجهة): ان الحديث عن التربية والتعليم ودور المعلم ومشكلات هذه العملية جميعها أمور شائكة وفيها الكثير مما يصعب تفصيله وحصره في كلمات قليلة. وتابع الرواشدة متسائلا: تدني الدخل للمعلم.. كيف بالله عليكم يعيش المعلم بهذا الدخل المعدوم، الذي أجبره على البحث عن اعمال لا تليق به، فكثير منا نحن المعلمين يعمل لساعات طويلة بعد الدوام فنجد معلما يعمل سائقا لتاكسي، واخر بائعا، واخر عامل تنزيل وتحميل، واخر (طريش)... الخ.. وهذه المهن مع تقديرنا الشديد لها ولاصحابها - بحسب الرواشدة - لا تناسب الصورة التي ينبغي ان يظهر عليها المعلم امام طلابه وامام افراد المجتمع بعامة. مهنة التعليم هذه المهنة التي كانت جاذبة للغالبية اما في ايامنا هذه فاصبحت مهنة طاردة، لا يرغب بها احد، بسبب المعيقات الكثيرة التي تواجه المعلم. واضاف الرواشدة ان قرارات وزارة التربية والتعليم التعسفية والبعيدة عن الدراسة، اضرت بالمهنة كثيرا، واهملت دور المعلم التربوي، فاصبح المعلم عبارة عن رجل آلي فاقد لجميع الصلاحيات التي كانت ممنوحة له بالسابق؟.
ويضيف الرواشدة: ان زخم الحصص المدرسية يجعل المعلم يجد نفسه منهمكا بالدروس وضغط البرنامج الدراسي، كما لا تفوتني الاشارة الى ان المعلم تحول الى آلة كاتبة من تحضير للدروس الى تربية للصف واوراق اخرى لا فائدة منها. ويؤكد الرواشدة اننا نجتمع في بداية كل عام ويتم تشكيل اللجان، منها مجلس الضبط الذي تغيب دوره تماما عن العملية التربوية والتعلمية، لان دوره اصبح ثانويا والقرارات تأتي «من فوق».. مجلس الضبط الذي من المفروض ان يكون بديلا عن اساليب الردع والعقاب التي كانت معمولة بالسابق.. ولكن هذا المجلس مغيب تماما في اغلب المدارس.
وقال «أود ان اشير الى موضوع الدورات التربوية التي تستنزف موازنة الوزارة دون فائدة، الدورة التي تبدأ بعد الحصص الدراسية اي بعد الساعة الثانية وتستمر الى وقت متأخر هل تجد عقولا نشطة تستوعب ما يلقى عليها؟ فلا نجد فيها الا التذمر من الاوضاع الاقتصادية، والترقب المستمر للساعة. واذكر انني كلفت بحضور دورة في احدى السنوات كانت تبدأ الساعة الثانية وتنتهي الساعة الخامسة والنصف وغالبية الحضور من النساء، والمشكلة ليست طول الفترة وانما التوقيت الذي ترافق مع شهر رمضان الفضيل».
خليل عادل: مدارسنا حقول تجارب خليل عادل
قال (للمواجهة): ان مطالب المعلمين عديدة، عدا معاناتهم اليومية، فرواتبهم باتت محل تَندّر العامة، ونحن نسمع وننتظر خطط الحكومة لإعادة النظر في هيكلة رواتبهم، ونسمع كذلك عن بلدان يحتل راتب المعلم فيها طليعة سلم الرواتب الحكومية. ولا تنحصر هموم المعلمين في تدني الراتب، فهناك سياسة وزارة التربية التي تصر على تحويل مدارسنا الى حقل تجارب لنظريات تعليمية لا تكاد تثبت على حال، حتى أنك تلحظ ذلك في أبسط الأمور ومنها شكل نموذج التحضير اليومي، ولا تجد مع ذلك تحقيقا للنتائج المنشودة، بل ان المُطلع يلحظ تدنيا واضحا في مستوى الكفاءات المعرفية الأساسية لدى الطلبة بشكل عام، بات يهدد السمعة المشرقة التي استطاع التعليم الاردني أن يحققها.
أما مجالس الضبط المدرسي فهذه نسمع عنها ولا نراها، أو قل إنها شكلية فقط، بعيدة عن دورها المفترض كبديل ناجح للعقوبة البدنية او اللفظية التي أؤكد لك أن المعلم أول من يرفضها لو وفر له ما يغنيه عنها فعليا... الواقع الذي يهرب المسؤولون من مواجهته هو أن غالبية مدارسنا باتت منفلتة من عقال الضبط التربوي، وأصبحت «مدارس مشاغبين» من طراز حديث جدا مطرز بتكنولوجيا التعليم. كل ذلك وغيره أوصل صورة المعلم الى ما هي عليه اليوم، فبات في أدنى مراتب السلم الاجتماعي، يشكو ويطالب ويتظلم، ثم تسمع من يقول: ما الذي يريده المعلمون من تشكيل نقابة؟!.
محمد نورس: زيادة العبء الوظيفي والاعتداء على المعلمين
اما المعلم محمد نورس فقد تحدث لـ (المواجهة ) قائلا: من الأمور التي باتت تؤرق المعلم في الوقت الحالي تدني الراتب بشكل كبير، بالاضافة الى غياب حلول حقيقية لمسألة تعدي الطلبة على المعلم، أضف الى ذلك زيادة العبء الوظيفي على المعلمين بزيادة الأعمال الورقية والكتابية التي لا يُفترض أن تكون من مسؤولياته، فمسؤوليته الحقيقية منصبة على الطالب والطالب وحده،عليه أن يكرس طاقاته وامكانياته العلمية من أجل تحسين مستوى الطلبة أكاديميا وتطوير اساليبه العلمية ثقافة واطلاعا، لا أن ينشغل طيلة فترة دوامه وعند عودته الى منزله بأعمال لا طائل منها سوى اثقال كاهل المعلم.
خالد حمد: مهنة التعليم من أصعب المهن
المعلم خالد حمد قال لنا: اصبح الحديث في الآونة الاخيرة عن رواتب المعلمين وعلاقتها بالاداء الوظيفي للمعلم مبالغا فيه، فلو قارنا رواتب المعلمين في بلدنا الاردن مع وظائف اخرى لوجدنا ان الراتب ضمن المعقول. ولا ننسى مكارم سيد البلاد الملك عبدالله الثاني واهتمامه الكبير بالمعلم وتحسين مستواه المعيشي. ومن هذه المكارم على سبيل المثال مكرمته في مساواة ابناء العاملين في التعليم مع ابناء الجيش العربي.. ومن جانب اخر ان مهنة المعلم لا تقدر باي ثمن لانه يصنع اجيال المستقبل. الحديث عن مجالس الضبط في المدارس رغم خبرتي القليلة كمدرس الا انني لم ار تفعيلا لمجالس الضبط بمفهومها واحياء لقوانينها حيث ارى كل عام تشكيل مجلس ضبط ليكون صوريا.. قد يخالفني الكثير من المعلمين بهذا الحديث الا انني رأيت العقاب لبعض مجالس الضبط في احدى المدارس فتدخل بها الواسطة ويصبح الامر أسوأ مما كان عليه.
كما ان الحديث عن تطبيق النظريات الحديثة في التعليم قد يبدو مستحيلا في مدارسنا الحكومية وقد يكون العائق الرئيسي الاكتظاظ الكبير للطلاب في المدارس، فقد يصل عدد الطلاب في الصف الواحد من 50- 60 طالبا.. وكمثال على النظريات الحديثة مختبرات الحاسوب والالواح الالكترونية وغيرها غير المستخدمة بالطريقة المطلوبة في المدارس. ومثال بسيط على ذلك من خلال المادة التي ادرسها وهي الحاسوب حيث لا تستطيع ان تضع 50 طالبا في مختبر لا تزيد عدد اجهزته عن 20 جهازا، فكيف يستطيع الطالب ان يتعلم مادة الحاسوب او غيرها من المواد المحوسبة.. واخيرا ان مهنة المعلم هي من اصعب المهن في المجتمع الذي نعيشه لاننا نتعامل مع (انسان).
عبير ارميلي: المعلم ليس بحاجة الى طبطبة
وقالت المعلمة عبير ارميلي ان قرارات مجالس الضبط - إن عُقدت - لا تطبق عادة، ما يخلق حالة من «الاستقواء» لدى الطالبات إزاء «عجز» النظام التعليمي عن إيقاع العقوبة التربوية عند الحاجة، مؤكدة أن العقوبة جزء أساسي في أي نظام تربوي وإداري، وهي بالطبع لا تعني الإيذاء جسديا او نفسيا وإنما التقويم والردع عن السلوك السلبي. وأشارت الى أن أوضاع المعلمين بعامة باتت بحاجة إلى أكثر من مجرد «الطبطبة» والتعامل مع الأمور بنظام «الفزعة» والشعارات الرنانة، آملة أن تشهد السنوات المقبلة عودة إلى الارتقاء بمكانة المعلم في نفوس الأجيال.
فادية الخطيب: خبرات مهمشة
ولفتت المعلمة فادية الخطيب الى أن المعلمين الذين يمثلون واحدا من أكبر قطاعات الموظفين عددا مهمشون عن المشاركة في صياغة القرارات المتعلقة بالميدان التربوي، مطالبة وزارة التربية والتعليم باستطلاع آراء العاملين في الميدان قبل اتخاذ قراراتها لأن الهيئات التدريسية هي الأكثر التصاقا بالهم التربوي وإدراكا لآثار أي خطوة تعتزم الوزارة تطبيقها. وبينت أن تجربتها الطويلة أتاحت لها ما لا يمكن أن يتوفر للكثير من الإداريين وأصحاب القرار، آملة أن يستفاد من خبرة أمثالها في تحقيق الأهداف المنشودة من العملية التروية والحفاظ على سمعة المملكة تعليميا التي أشارت الى تأثرها سلبا في الآونة الأخيرة في اثر أكثر من مشكلة تعرض لها قطاع التعليم في الأردن.
رأي أكاديمي:
اما الباحث التربوي الدكتور حسن علي المبيضين فقد اشار الى ان العملية التربوية تمثل ابعادا اقتصادية وسياسية وفكرية واجتماعية، وان على من يسعى للنهوض بمخرجاتها ان يدرك اولا هذه الابعاد ويعمل على تمثيلها في العملية التربوية بشكل متجانس ومتناغم ومنسجم، بحيث تتحقق الاهداف التربوية العامة التي يسعى المجتمع باسره اليها، وكذلك الاهداف الخاصة، ان كان على مستوى الامة او الوطن او الفرد، وهذا من شأنه ان يلتفت الى قضايا ثلاث هي:
اولا: الفلسفة العامة للعملية التربوية: وهذه النقطة تتطلب من الجميع اخضاع المقدرات الفكرية والمادية تحقيقا لتلك الفلسفة، اذ كثيرا ما تكون المناهج او القائمين على تنفيذها وادارتها، او الدارسين لها، في غربة عن تلك الفلسفة التي يجب ان تنطلق وفق معايير دينية وقومية ووطنية تهدف الى ترسيخ ثوابت وقيم وعادات وتقاليد تشكل في مجموعها هوية الامة والوطن والفرد، وهنا تقع المسؤولية على الجميع للبناء على هذه الفلسفة، واهم من يسعى لتجذيرها والبناء عليها هي المؤسسات الرسمية مشتركة كالاعلام والثقافة واهمها وزارة التربية والتعليم اضافة للهيئات الدينية والفكرية، باعتبارها جميعا مؤسسات دستورية تعمل من اجل الحفاظ على الدستور، ووفق مقتضياته. فاذا تكونت القناعة المشتركة بان الفلسفة العامة التي نريدها لهذا البلد اساسا في جميع مناشطه السياسية والفكرية والثقافية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية، عندها يجب العمل المشترك وفق مقتضيات تلك الفلسفة حتى تكون المرشد والموجه في المجال التربوي والتعليمي على وجه الخصوص.
ثانيا: اعادة الاعتبار للمعلم: وهذه مهمة صعبة بعدما فقد المعلم كثيرا من المميزات الايجابية التي صنعت منه ذات زمان قائد مجتمع بما يتمتع به من خلق قويم وفكر ثاقبت ورؤية صادقة للمستقبل الذي يصنعه للجيل بمفرده، دون تأثير من هذا الطرف او ذاك، فقد آل وضعه الى حالة من عدم الاتزان والضعف، ولعل الجانب المادي اسهم بشكل كبير في هذا الجانب، فقد تجاوزت مهن كثرة بمردودها المادي مهنة التعليم، وتركت المعلم يصارع تكاليف الحياة وبهرجتها التي لا يشبعها الا المزيد من المال. اذ ساعد الاعلام بشكل او بآخر في تصوير الحياة بشكلها المادي الجديد وفق اسس الغنى والثراء وليس وفق الخلق والفكر وقيم القناعة، التي تجعل من المعلم انسانا يهلث وراء تأمين حاجاته اليومية بشكل او بآخر. وهذا ما ابعد المعلم عن تطوير نفسه فكريا وثقافيا ولا اقول تعليميا فالمستوى الفكري الثقافي بانحدار ملحوظ، اما التعليمي الشكلي ففيه من صور التقدم التقني ما يشهد له بمجاراة عصره، لكن على غير ما نرضى كمجتمع له.
ثالثا: اما القضية الثالثة فهي مسألة الطالب الذي نريد: وهنا يكمن ضمن السؤال بعض مفردات الاجابة عليه، اذ لا بد للنشء الذي نسعى لاعداده ان يكون قادرا على مواجهة المستقبل بكل مصاعبه، ان يكون مؤهلا قبل العلم والثقافة بأسس الخلق والمعرفة بأدبيات تلقي العلم وحفظه ونشره، كما نريده متزنا في شخصيته معافى في بدنه، مؤمنا في قلبه مطمئنا الى سلامة الهدف وسموه الذي يعمل من اجل تحقيقه المجتمع الذي يعيش بينه ابنا وطالبا وعاملا في مستقبل الايام.