تلاشت أدوات الرقابة، غاب الرادع، غاب الحس الوطني، استحكمت خفافيش الظلام بقوت الناس، طغت "الأنا" على الصالح العام، فتشكل المناخ الجاذب لآفة الفساد.
هذه الأسباب وغيرها أوجدت الفساد بأشكاله المتعددة، وبات يشكل عالما يقوده ويحميه منتفعون، يتفاوت حجم وشكل نشاطهم فيه بين كبير وآخر صغير ينخر كلاهما في جسد الاقتصاد ويستنزف مقدرات الامة، بحسب محللين.
ويؤكد هؤلاء أن الفساد الصغير قد يتحول إلى كبير، لكن العكس لا يحدث في الغالب.
وفي الاردن.. تصدح قصص وحكايا الفساد في أروقة المحاكم في قضايا أوصلتها نوايا حكومية، اصطاد شباكها فاسدون صغار، في وقت يتفشى الحديث بين العامة حول قضايا كبيرة لم تفتح ملفاتها بعد، في حالة تعكس مدى توغل وانتشار هذه الآفة في مجتمعنا.
وشنت حكومة سمير الرفاعي حملة ضد بؤر الفساد وفتحت العديد من ملفاته، لكن مخاوف تساور محللين ومراقبين من أن ترتطم تلك الجهود الأولية بصخور الواقع التي يمكن أن تكبح جماح الحكومة وترد حملتها على أعقابها بسبب وجود مناطق نفوذ مغلقة يحتلها فاسدون، ما حصر الجهد الحكومي في قضايا الفساد الصغير.
أسباب الفساد عزاها أستاذ علم اجتماع التنمية في جامعة مؤتة الدكتور حسين محادين إلى انتشار القيم الفردية "الأنا" وتضخمها في ظل الانفتاح وتطبيق سياسة السوق المفتوح.
ويشير محادين الى أنّ الفساد يظهر عند الرغبة في الثراء المفاجئ من دون بذل جهد مواز لهذا الثراء، ما يجعل اللجوء الى طرق مخالفة قانونيا، من عمولات في الظل أو التفاف على القانون أو أخذ أموال من دون وجه حق، منفذا للوصول الى هذا الثراء.
ويقول محادين إنّ الاهتمام بالنقود وانتشار ما يعرف بمبدأ "دعه يعمل.. دعه يمر" واللجوء الى كل الوسائل غير المشروعة بهدف جمع الأموال، مع ملاحظة أن القيم الفردية "الأنا"، كلها تضخمت وأصبحت جزءا من التحولات نحو حرية السوق بالمطلق، لا سيما أنّ المال أصبح أحد محددات المكانة الاجتماعية بغض النظر عن سبل كسب هذا المال.
ويرفض محادين فكرة الربط بين الفقر والفساد، حيث إنّه ليست هناك دراسات واضحة تربط هاتين الظاهرتين، كما أنّ "معظم الفاسدين كما هو متداول يكسبون أموالهم بطرق غير مشروعة".
على أنّ الخبير الاقتصادي الدكتور مازن مرجي يرى أنّ هناك نوعين من الفساد؛ فهناك الفساد الصغير الذي "لا يعتبر فسادا بالمعنى الحرفي، بل هو انحراف اجتماعي أو نوع من انهيار منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية، وهو ناجم عن فساد أكبر متأصل ومنتشر في المجتمع"، موضحا بأنّ "الفساد على المستوى الصغير هو نتيجة للفساد الكبير".
ويقول إنّ الفساد الصغير أو اختلال المنظومة الأخلاقية لدى المواطن أو الموظف الصغير ناجم عن عدم قدرة هذه الفئات على تأمين قوت يومها وحاجاتها الأساسية، ما يبرر لها أن تقوم بالفساد، إلا أنّ هذا المستوى من الفساد ناجم عن فساد أكبر متوطن ومتأصل في مجتمعنا.
حكايات الفساد الصغيرة كثيرة وتُنشر كل يوم في وسائل الاعلام المختلفة، فمؤخرا، قضت محكمة استئناف جزاء عمان، بحبس موظف حكومي يعمل بوظيفة منذ ثلاثة أعوام، لإدانته بجناية طلب الحصول على رشوة، إذ تقتضي طبيعة عمله الرقابة على المواد وفحصها.
وكان المتهم طلب من موظف المؤسسة (شاهد) ألف دينار وراتبا شهريا، مقداره 300 دينار لغايات عدم توجيه إنذار للشركة نتيجة العينة الراسبة.
وبعد التنسيق بين المؤسسة والجهات المعنية، تم الترتيب مع الشاهد، ليتم إلقاء القبض على المتهم متلبسا أثناء تسليمه مبلغ متواضعا من المال.
قصة أخرى ذكرها الاعلام نهاية العام الماضي حول موظف في دائرة ضريبة الدخل والمبيعات وأثناء مراجعة شخص للدائرة للحصول على ورقة براءة ذمة لشركة يعمل فيها، وعند وصوله الى شباك المتهم الموظف المسؤول بحكم وظيفته كمقدر ضريبي "طلب الموظف من مندوب الشركة دفع مبلغ 1000 دينار وجهاز كمبيوتر لاب توب من أجل مساعدته وتخفيض قيمة الدخل وإعطائه ورقة براءة ذمة".
وقامت الشركة بإبلاغ مديرية مكافحة الفساد، وتم إلقاء القبض على الموظف متلبسا وأحالته الى المحكمة بصفتها الجنائية، حيث أصدرت المحكمة حكما عليه يقضي بالاشغال الشاقة المؤقتة ثلاث سنوات ونصف السنة وتغريمه قيمة ما طالب من رشوة نقدا وعينا والرسوم الادارية والطوابع.
قصة ثالثة، كانت تتمثل بتحويل عدد من الموظفين في شركة كبرى إلى دائرة مكافحة الفساد للتحقيق معهم في قضايا تتعلق بتلقيهم رشاوى من مواطنين لإنجاز معاملاتهم بطرق غير قانونية ليصار إلى تحويلهم بعدها للمحاكم المتخصصة.
ويبين مرجي أنّ الفقر والبطالة في الأردن ناجمان عن الفساد الذي يقف حائلا دون توزيع الثروات والاستثمارات والفرص بشكل سليم وعادل، ما يعني أنّ المشكلات الاقتصادية تنتج عن الفساد.
ويضيف أنّ الفساد الذي لا بد من مواجهته هو الفساد الموجود في المواقع الادارية التي تتغلغل في الادارة الحكومية العامة، وإدارة الشركات الكبيرة وفي الجهات التي تتحكم بأكبر قدر ممكن من المال والقرار، مضيفا أنّ محاسبة واحد من هؤلاء الفاسدين الكبار سيرد مئات من الفاسدين الصغار.
ويبين أنّ الحكومة حتى الآن لم تخرج في إعلانها لمكافحة الفساد عن إطار مكافحة الفساد للقضايا الصغيرة، وهي لم تلمس المكافحة الحقيقية التي تمس الفساد الكبير.
ويلمح الى أنّ التشابك والتداخل كبيران بين القطاعين العام والخاص، وبالتالي سيطرة التجار والرأسماليين على مراكز صنع القرار والمناصب العليا هي السبب في وجود وتأصل الفساد في المجتمع، حيث إنّ هذا التداخل خلق فجوة كبيرة بين مكافحة الفساد والفساد.
واحتل الاردن المرتبة 49 بحسب التقرير السنوي لمؤسسة الشفافية الدولية في العام الماضي، وهذا التقرير يصنف جميع دول العالم من حيث ممارسة الفساد فيها وفقا لطائفة من المؤشرات. الغد