قصة يرويها الصحفي السوداني مؤمن غالي
يحكى إن طبيبًا سودانيًا سافر إلى «دبلن» لامتحان الجزء الأول من تخصصه الطبي وكانت رسوم ذاك الامتحان هي 309 جنيهاً إسترلينياً
ولأن الطبيب لم يجد «فكة»
فقد دفع 310 جنيهات
بعد مدة جاءه خطاب من كليته في السودان
بعد أن عاد من «إيرلندا»
وفي طي الخطاب شيك بجنيه واحد
مع الإيضاح للطبيب أنه كان قد دفع للكلية 310 جنيهات
مع أن الرسوم هي 309 جنيهات فقط.
والحق أن هذه القصة قد أعادتني لأحداث حدثت معي شخصيا:
أولها أنه في العام 1968 كنت قد اشتريت سيارة لوري بدفورد صنع إنجلترا من وكيل الشركة هنا في الخرطوم بملبغ ألفين وأربعمائة جنيه سوداني
لا تدهشوا ولا تعجبوا
فقد كان ذلك في أوان «العز» والترف الذي ذرته الرياح وتبددت أيامه كالدخان.
المهم وبعد نحو أربعة أو ستة أشهر وصلني خطاب من الشركة
يبلغني أن المصنع اﻹنجليزي قد أفادهم في خطاب، به من الاعتذار ما يخجل، باعتذاره عن أن هناك خطأ في تكلفة التصنيع،
وأن الثمن الحقيقي للوري هو 2370 جنيها فقط.
وعليه ترجو إدارة المصنع مني الاتصال بالشركة حتى أسترد منها ثلاثين جنيها فارق السعر .
سعدت إلى حد الطرب؛
ليس لذاك الفرق الذي جاء لمصلحتي،
ولا للثلاثين جنيها التي هبطت فجأة في «جيبي»
لقد كانت سعادتي لتلك الروح الطيبة
والأخلاق العالية
والأمانة النادرة
والدقة المتناهية
التي يتمتع بها المواطن البريطاني.
وحزنت إلى حد البكاء والغضب
وأنا أنظر حولي لأقيس وأوازن ذلك بما نحن فيه،
إن السواد الأعظم من بني وطني ومن جماهير شعبي
الذين يعملون بالتجارة
والتعامل المباشر مع بني وطنهم
يخالفون تعاليم دينهم
الذي يحثهم على الأمانة والصدق
ويحرم عليهم أكل أموال الناس بالباطل.
وهناك حادثة أخرى كنت أنا للأسف بطلها الأوحد،
كان ذلك في العام 1978م
وأيضا كان ذلك في أيام العز
بل أيام الترف والثراء العريض،
وذلك عندما كانت زيارة لندن بالنسبة لي مثل زيارة أي مدينة داخل السودان تماما. فقد كنت دائم التردد على لندن.
المهم أني كنت أقيم في منطقة «بادنجتون»
وأركب يوميا قطار الأنفاق،
وكنت أمر يوميا على «كشك» سيدة إنجليزية عجوز،
أثرثر معها كثيرا
و«أتونس» معها يوميا،
ثم اشتري «لوح» شوكولاته بمبلغ ثمانية عشر بنسا.
كانت تلك العجوز «ترص» ألواح الشوكولاته على «الرف»
وتضع ﻻفتة صغيرة مكتوبا عليها ثمن السلعة.
جئتها يوما وكالعادة
وفي أثناء «الونسة» لمحت أنها قد وضعت على «رف» آخر ألواحا من الشوكولاتة
ولكنها تحمل ﻻفتة سعر آخر
وهو عشرون بنسا،
وهي موجودة بجوار الرف الآخر الذي توجد عليه ﻻفتة السعر اﻵخر ثمانية عشر بنسا.
سألت المرأة:
اليوم أرى عندك نوعا جديدا من الشوكوﻻته.
أجابت في اقتضاب: نفس النوع.
واصلت متسائلاً :
إذن بوزن وحجم جديد.
أجابت: نفس الوزن والحجم.
واصلت «ثقالتي» وأنا أقول:
إذن هو من مصنع آخر.
أجابت: نفس المصنع.
هنا سألتها: إذن لماذا والحال هكذا،
هناك سعران:
أحد الأرفف يحمل 18 بنسا،
والرف الآخر يحمل 20 بنساً ؟
أجابتني قائلة:
هناك مشاكل في نيجيريا التي يأتي منها الكاكاو، وهذا هو الثمن الجديد.
هنا سألت المرأة قائلاً:
ومن سيشتري منك بعشرين بنساً مادمت تبيعين النوع نفسه بثمانية عشر بنساً ؟
فقالت: نعم أنا أعلم ذلك،
ولكن بعد أن ينفد ذاك الذي هو بالسعر القديم سوف يشتري الناس بالسعر الجديد
هنا قلت لها في غفلة وبلادة ولا مبالاة: لماذا لا تخلطين النوعين معا وتبيعين بالسعر الجديد، أي بعشرين بنساً ؟؟
جحظت عينا المرأة،
واحمر وجهها من الغضب
ثم مالت نحوي وهي تهمس في فزع:
هل أنت حرامي؟؟
ومازلت منذ ذلك التاريخ أسأل نفسي:
أ أنا حرامي؟؟ أم هي غشيمة بهيمة تلك المرأة ؟!!!
طيب، إذا كنت أنا حرامي،
فكيف هم أولئك الذين يشترون آلاف الجواني من الدقيق،
وعندما يرتفع السعر
يبيعون بالسعر الجديد ؟!!
وفي أي «سقر» أو «جحيم» أو «سعير» يتقلب فيها «محروقاً» من يزيد فجأة سعر «البصل» في مخازنه
ويبيعه بالسعر الجديد ؟!!
رغم أنه قد اشتراه بالسعر البائس الزهيد القديم !!!
ولن أكتب حرفاً واحداً عن الذين يخزنون السكر واﻷرز واللبن والزيت وغير ذلك من احتياجات الناس ويخفونها في أوقات اﻷزمات والحروب، ثم يبيعونها بأعلى اﻷثمان، محتكرين حاجة الناس.
فهؤلاء سيواجهون أمراً «مراً» في ذاك اليوم الرهيب
بقلم / مؤمن غالي