لم يكن من السهل ان نجد أحدا يقول لنا انه حاول الإنتحار، في مجتمع يكفر المنتحر، وينظر إلى فعله على أنه فضيحة تستوجب الستر، لا مشكلة إنسان ضاقت به الدنيا فاختار في لحظة الضعف الاستسلام لا المقاومة.
أرهقنا البحث وبعد ان كدنا نيأس وجدنا ضالتنا. معتز، شاب عشريني يدير محلا لتنظيف وكي الملابس شرقي العاصمة الأردنية عمّان، صدمته الحياة مرة، فكانت الصدمة مًرة، إستسهل الهروب من مشاكله، فقرر وضع نقطة النهاية لقصة ما زالت في البداية.
"حاولت رمي نفسى على طريق سريع، لكن السيارات كانت تهرب مني" يقول معتز وهو يسترجع لحظات الموت، "ثم أخترت ان أبتلع كل الأدوية الموجودة في البيت، بعد دقائق من ابتلاعها بدأت أخسر سيطرتي على جسدي ثم كان الإنهيار".
قبل أشهر من هذه المحاولة كان معتز قد بدأ بشق درب الحياة، إشترى سيارة وإمتلك متجرا وخطب فتاة أحلامه، لم يكن ببساطة يحتاج سوى لزيادة دخله لكي تكتمل صورة النجاح لديه.
طموحه دفعه لقبول عرض رجل أعمال إماراتي للعمل معه في دبي، باع كل شيء، وزّع بعض المال على عائلته وما تبقى إشترى به تذاكر السفر وبعض الحاجيات، لكن أسبوعا واحدا في دبي كان كفيلا بقلب حياته رأسا على عقب.
عاد معتز إلى الأردن فلم يجد من يستقبله في المطار، الجميع تخلى عنه، وأضحى لا يملك شيئا سوى دعم خطيبته ووالدتها لكن ذلك لم يكن كافيا له لمواجهة ما وصفه لنا برمقة الفشل التي كانت تحيط به من كل جانب. حتى الأهل لم يكونوا على إستعداد لسماعه، اما الأقارب فتعاطوا معه على أنه عالة عليهم.
"أحب الحياة"
بين الموت والحياة ظل معتز معلقا لأيام، أسعفه القدر قبل ولوج النفق المجهول حين وجدته شقيقته يصارع مصيرا سعى إليه بنفسه، فكانت هذه الحادثة كوة للأمل جعلته ينطلق من جديد في حياته، راميا خلفه كل المعوقات التي سدت طريقه وإنطلق مجددا رافعا شعار "أحب الحياة".
معتز عالج نفسه بنفسه
"رأيت عزرائيل بعيني، وكان يجذبني نحوه" كانت عينا معتز ممتلئتين بالدمع المحبوس وهو يصف لنا تلك اللحظات وكأنه عاد ليعيشها من جديد، "حاولت الصراخ لكن صوتي كان محبوسا داخلي، وتوسمت خيرا حين رأيت أهلي يحيطون بي وهم يحاولون إنقاذي".
كانت تلك أولى علامات الأمل التي بدلت مواضع حروف الألم، ودفعت بالشاب الممتلى يأسا للإنبعاث من جديد من مخاض موت كان ان يفقده الحياة.
قصة معتز ليست معزولة عن مجتمعه، فهو يعيش في بلد شهد خلال السنوات الماضية إرتفاعا في نسب الإنتحار، فجاوزت الأرقام سابقاتها في السنين الماضية. المركز الوطني الأردني للطب الشرعي سجل في العام 2009 فقط، 65 حالة إنتحار ناجحة و 400 حالة فاشلة، بزيادة حوالي مئة ثمانية حالة عن أرقام الأمن العام الأردني، الذي أكد مدير إدارة البحث الجنائي فيه العميد فاضل الحمود في مقابلة معنا ان العدد المسجل عنده لا يتجاوز 32 حالة إنتحار اما المحاولات فمئتين وتسعة عشر حالة، فما كان منا إلا ان واجهناه بهذا التباين فبرر ذلك بأن الأرقام هي للحالات التي تثبت لديه من خلال التحقيق.
في هذا الإطار يقول مستشار الطب النفسي الدكتور محمود أبو دنون ان الأرقام التي تعطى ليست دقيقة، "غالبا الحالات التي تحضر إلى الطوارئ في محاولات إنتحارية تعطى تفسيرا غير حقيقي، مثلا أن الشخص كان يجرب المسدس او ينظف المسدس أو انه كان يحاول إصلاح الصحن اللاقط فسقط".
طرق عديدة تستعمل للإنتحار في الاردن بعضها كما في قصة معتز، بإستعمال الأدوية، لكن انماط الإنتحار بشكل عام تعكس الواقع المحيط بكل حالة، على حد تعبير د. هاني جهشان من المركز الوطني للطب الشرعي، الذي يؤكد ان معظم حالات الإنتحار لدى الرجال تتم بإستعمال أسلحة نارية، اما النساء فينتحرن عبر شنق أنفسهن او الحرق.
"مبنى دوار الداخلية"
أسلوب آخر ذاع صيته في الأردن لمحاولات الإنتحار وهو عبر التوجه إلى "مبنى دوار الداخلية" الذي بات يعرف بمبنى الإنتحار والجلوس على حافته والتهديد بالإنتحار كما حدث مع إحدى الفتيات الأردنيات التي عرفت بإسم جيهان.
قضية جيهان جذبت تغطية إعلامية كبيرة خاصة وأن الفتاة إتصلت بوسائل إعلام وبالشرطة وتجمع المئات من الأردنيين تحت المبنى حينها ليتابعوا محاولة الإنتحار التي لم تكتمل بعد تدخل أحد العناصر الأمنية.
خلال بحثنا سمعنا بقصة سائد الذي حاول الإنتحار قبل سنوات. بضعة إتصالات من فريق التحقيق أوصلتنا إلى عتبة منزل أسرته الواقع في احد الأحياء الفقيرة في عمّان، .
"انا حتى في الإنتحار فاشل" يقول سائد الذي لم تقتصر محاولة الإنتحارية على المرة الأولى التي حقن نفسه فيها بحقنة "كاز" بعد مشادة مع أهله وأخوته.
"كنت أسأل الشباب عن طريقة للإنتحار، فقالوا لي إحقن نفسك حقنة فارغة، إجتهدت فأضفت إليها مادة الكاز، إنتفخت يدي وإزرقت، كذبت على أهلي حينها وقلت أني وقعت، لم أكن أجرؤ على القول أني حاولت الإنتحار".
باءت محاولة سائد الأولى بالفشل، لكنه يده لازالت تشهد على فعلته، عليها أثار تشبه الحريق.
يأس سائد من الحياة لم ينعكس يأسا من الموت، فكرر محاولة الإنتحار، وكان في كل مرة يجدد في الطريقة لكن الموت كان يخذله.
"انا حتى اللحظة أحاول الإنتحار" يؤكد لنا الشاب الذي يعمل هذه الأيام في طلي المفروشات، هو يحاول الإنتحار لا لأنه يريد الموت بل "لأن الحياة لا تريدني".
فهو يعاني منذ الطفولة من العنف الأسري وهو أجبر على ترك المدرسة وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة، كان عليه ان يعمل وأن يأتي بالمال لأهله وفي كل مرة لم يكن يأتي فيها بالمال، كان يتعرض للضرب من والده وأخوانه.
لكن ما الذي يدفع شبانا من عمر سائد ومعتز وجيهان لسلوك درب الموت بدل الحياة؟
"هي في غالب الأحيان صرخة للنجدة" يقول د. عدنان التكريتي إستشاري الطب النفسي مضيفا أن "محاولات الإنتحار بعضها ليس جديا، بعضها للفت النظر، وبعضها الأخر لإيذاء الذات بسبب عدم القدرة على التعامل مع المجتمع".
"هناك تغيير في المنظومة القيمية في المجتمع" يقول د. حسين الخزاعي المتخصص في العلوم الإجتماعية، الذي يعتبر هذا التغيير خطير ويحذر منه، لأن "الحالات معرضة للزيادة، بسبب التفكك الأسري الذي يؤدي للإنعزال وعندما يعزل الفرد عن المجتمع يتخذ قرارت خاطئة".
"الحل الانجع في إيجاد مركز لعلاج محاولي الإنتحار" يقول الخزاعي وهو يشير إلى أن عددا ممن حاولوا الإنتحار في السابق وتم ثنيهم عادوا لينتحروا وينجحوا في إنهاء حياتهم بسبب عدم وجود هكذا مراكز.
نقطة يوافقه عليها معتز، الشاب الذي كنا إلتقيناه في بداية التحقيق، فهو على حد قوله عالج نفسه بنفسه، "انا عالجت نفسي بنفسي، انا طبيب نفسي، قلت لنفسي كلمتين لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة". bbc