بقلم الاعلامي .. بسام الياسين
((( قال الرئيس هاني الملقي في اول تصريحاته الصحفية : ستتم المباشرة بإصلاحات ادارية تهدف الى تعزيز مبدأ سيادة القانون وتطبيقها على الجميع دون محاباة وسيكون عنوان المرحلة ” الحزم بتطبيق القانون ” وفي لقاء آخر اعترف بترهل القطاع العام.الحق ان ما قاله الرئيس كلام انشائي جميل ) .و بدورنا نقول لدولته :ـ اذا كنت جاداً فيما قلت :ـ ان عليك البدء بفتح ملفات النخبة المخجلة وتطبيق القانون عليها، اذ ان ملفاتها ترتقي الى مستوى الفضائح الادارية والدعارة المالية..ملفات معروفة للعامة، هي ليست بحاجة الى خوارق لكشفها ومحاكمة ابطالها. فمن البدهي ان محطات التنقية تعلن عن نفسها بنفسها لانها تزكم الانوف من مسافة بعيدة.كذلك يجب ان لا تكون الوظيفة مهما علت حصانة تُحصّن صاحبها من المحاكمة او تُزوّر تاريخه من شخصية دونية الى شخصية مقدسة لا يجوز المساس بها. الشعب دولة الرئيس :ـ لم يعد يثق بالوعود منذ عقود…ما يريده ـ باختصار شديد ـ ان تفتح ملفاً واحداً من ملفات جماعة ما يعرف بـ ” عظام الرقبة ” لاثبات صدقية اقوالك و تماهيها مع افعالك ))) ….!.
*** كان ابو عرب يحب الله والناس واللغة العربية،حباً خالصاً لا يشوبه شائبة…ولا تلطخ بياض صفحة مشاعره لطخة مهما كان لونها او دق حجمها حتى لو كانت بحجم راس ابرة…. حبه لوطنه يتجلى جلياً في حب الاطفال و الاشجار رمزا الحياة والمستقبل… حب فريد تجاوز العشق الى حدود الافتتان بكل ما هو وطني و عروبي .
من عادات “ابو عرب” الجميلة ان يملأ جيوبه بالحلوى اللذيذة . فاذا ما التقى طفلاً في احدى طرق البلدة الضيقة ، دس يده في جيبه وناوله قطعة منها ثم مسح براحة يده على رأسه بحنان ابوي …عاطفته الجياشة نحو الاطفال وملامحه الابوية من اسباب إنشدادهم اليه وتعلقهم به.لذلك من باب التأدب معه كانوا ينادونه – عموه – احتراما وتبجيلاً. حاز على شعبية واسعة في البلدة الوادعة التي جاء اليها واستقر فيها من دون ان يسأله احد من اين اتى لإخلاقه الرفيع…تديّنه الشديد….تواضعه الجم مع من يعرفه ومن لا يعرفه،خصوصا تعامله مع الجميع بإعلى درجات الرقي الانساني،إضافة الى عدة عوامل اخرى جعلت منها شخصية كارزمية جاذبة، جذبت اليه الناس على تنوع مشاربهم….تباين اعمارهم،واختلاف آرائهم .
ازدادوا اعجاباً به حينما غاب امام مسجد البلدة لعارض قاهر… فقام برفع آذان الفجر بصوت سلب الالباب.ازداد اعجابهم اكثر عندما أّمَ المصلين وقرأ بصوت رخيم تقشعر له الابدان آيات من القرآن الكريم،ولما وصل الى قوله تعالى : ـ حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فُصلت آياته قراناً عربياً لقوم يعلمون *…اجهش في البكاء و اجهش معه المصلون خشوعاً وإيماناً… عندما فرغ من الصلاة. تحلّق حوله الشباب، فأقترح احدهم ان يعطيهم درساً دينياً…وكانت المفآجاة ان ” ابو عرب” موسوعة فكرية،سياسية،ثقافية حين حدثهم عن ازمات الامة المعاصرة بلغة جديدة غير تلك اللغة المحنطة المكرورة التي كانوا يسمعونها من موظفي وزارة الاوقاف المؤطرة باطر صارمة لا يحيدون عنها كمبطلات الوضوء….والنساء الكاسيات العاريات….وازدادوا ثقة فيه عند تحليله الوضع الراهن،وكيف يجري تفتيت الامة كانها “حصوة” في كلية مريض توخزه كلما تحرك…الالم الاكبر ان عمليات التفتيت تجري بمساعدة خونة الامة….فتارة تجري بالليزر وتارة اخرى بالجراحة.
دهشة الشباب تضاعفت حين قال ابو عرب بالفم الملآن :ـ ان بعض الدول العربية سجينة ارادات سياسية مزيفة دفعتها الى التشظى مثل كومة الفخار ضربها زلزال عنيف،بينما بعضها الآخر يتساقط كالثمار المتعفنة على اشجارها…الاسوأ من هذه وتلك …تلك الغارقة بدماء اهلها ولم تمتد يد لانقاذها من الاشقاء كأن دم الاخوة صار ماء….انها الديكتاتوريات العربية وقوى الشر المنبثقة عنها التي لا تملك الا العنف لتصفية معارضيها.فالديكتاتور العربي حيوان سياسي منفلت من قفصه،متعطش لجز الرؤوس،قطع الارزاق،زج الناس بالزنازين…انه البلاء الذي حلَّ بالامة….لكن الله بالمرصاد …لن يفلت ظالم من قبضته وهو العادل المنتقم الجبار مهما بلغ الديكتاتور من علو….{ و اذ تأّذنَّ ربك ليبعثن عليهم الى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب…..} صدق الله العظيم.
استطرق ابو عرب برهة قصيرة وظن الشباب كأن غفوة اخذته لكنه رفع راسه وقال بصوت شجي :سأروي لكم اعظم ما روى التاريخ عن ظلم الظالمين، وكيف سيرتد على اهله.ذلك ما حدث مع البرامكة الذين فتك بهم الخليفة هارون الرشيد فقتل من قتل و اودع ما بقي منهم السجن.كان خالد البرمكي احد كبرائهم و من اقرب المقربين للخليفة هارون الرشيد،فسأله ابنه وهو في السجن لماذا يا ابتي توزعنا على السجون بعد ان كنا سكان القبور… بالامس كنا امراء و اصبحنا اليوم سجناء. فقال الاب للابن :ـ { يا بني لعلها دعوة مظلوم في جوف الليل…غفلنا عنه ولم يغفل الله عنها }….فالظلم لعنة ابدية ستطارد الظالم ونسله الى يوم يبعثون،وسيدفع فاتورة ظلمه دنيوياً واخروياً….والشواهد اكثر من كثيرة.
بدافع حب “ابو عرب ” للاشجار كان يؤلمه ان يكسر احد الناس غصناً او يقطع شجرة صغيرة ام هرمة حتى لو كان الامر ضرورياً لفتح شارع او اقامة مبنى… منظر الكسر يؤلمه …كأن ضلعاً من اضلاع صدره يُكسر او ان ” طاحونة العقل ” تُقلع من فمه بخيط مصيص او نايلون دون تخدير عند حلاق البلدة ذي الملامح القاسية والوجه العبوس…ذلك الحلاق الملقب شعبياً ” ابو جهل “نظراً لتعدد ” الكارات ” التي يمارسها من دون خبرة ولا علم ـ من خلع اسنان، الى ختان الصبيان، وكي المرضى… ـ ابو جهل الحلاق ـ لا يهمه عواقب افعاله حتى لو ذهب المريض الى حتفه،اذ ان همه الاول و الاخير قبض اجرته… صفاته القبيحة اثارت رعب الاولاد،و جعلتهم ينفرون منه عكس “ابو عرب” الحنون الذي يُغذي الجميع بطاقة ايجابية عالية ذبذباتها حب وسعادة .
اللغز المحير ان لا احد يعرف شيئاً عن “ابو عرب” ولم يفكر احد في فك “شيفرة” هويته ،اصله ،فصله…حدود معرفتهم به ترديد ذات الاجابة في جلساته. عند سؤاله تلميحاً او تصريحاً عن هويته يبدأ بترتيل قول الله تعالى : ـ { ان هذه امتكم امة واحدة و انا ربكم فاعبدون } ….والتغني شعراً :ـ بلاد العربِ اوطاني….من الشام لبغدان…. وحلمه بدولة عربية قوية مهابة الجانب بلا يهود و لا حدود.
من سمات شخصيته المميزة انه صموت بطبعه يشي بان شيئاً مهماً يشغله.اللافت فيه ايضاً انه رغم بنيان جسده المضعضع، وظهره المحدودب، وتجاعيد وجهه المحفورة بفعل الزمن، يبدو مثل سنديانة تعاند الريح، وتقاوم الزمن فيما اظافرها تتشبث في الارض برسوخ و قوة حيث يترآءى للناظر ذي الفراسة انه منحوت من صخرة “بازلت” قاسية رغم ان روحه محلقة كنجمة معلقة في السماء السابعة…رنة صوته الحزينة،نظراته الذابلة توحي بانه يتوجع مما يدور حوله ، لذلك كان وحيداً كثير التأمل والنظر في الافق البعيد بانتظار مفاجأة تحقيق حلمه المعجزة بامة عربية واحدة .
ابو عرب لم يشترك في حياته في جلسة نميمة …. لم يغمز من جانب احد …لم يحاول ان يشوه صورة مخلوق…هذه خطوط حمراء من المحرمات لا يجوز تجاوزها ومن الكبائر المحرم حتى الاقتراب منها لا اقترافها…. في ” ابو عرب” خاصية فريدة يكاد ينفرد بها عن غيره، انه لم يضبط يوما متلبساً بسوداوية النظرة …فبينما كان الجميع يتذمرون لاتفه الاسباب…مثالاً عندما كانت تجف افواه الحنفيات،وتنضب المياه تأخذ الكثرة الكاثرة من الناس بالشتم باقذع السباب غير انه يرفض هذا المنظق الطفولي….في مثل هذه الحالة العارضة كان يذهب الى اقرب بقعة طاهرة من الارض… يتيمم بالتراب الحنون ويقول بصوت رخيم : ـ اقرب ما يكون العبد الى الله عند السجود على هذه الارض الطيبة الطاهرة ….
ذات يوم افتقد الاطفال العم “ابو عرب”….لمسته الحانية،حلواه الحلوة… فتشوا عنه في كل الامكنة التي اعتادوا ان يلتقوه … ولما يأسوا، قرروا الذهاب الى غرفته الطينية النائية التي تقع ففي طرف البلدة.طرقوا بابه المتهالك مرات دونما اجابة…فاضطروا لفتحه بالقوة…دخلوا الغرفة فوجدوها عارية تماما….فراش خشن على سرير قديم، و فوق المخدة يسترخي مصحف شريف…جرة ماء في الزاوية…بقايا رغيف وعدة حبات بندورة ،وفي مواجهة مكان نومة خارطة للوطن العربي الكبير مرسومة باليد،بلا اسلاك شائكة ولا براميل عازلة…اللافت فيها انها من دون الوان سياسية باهتة و دول كرتونية هشة من صناعة الثنائي الفرنسي الانجليزي سايكس / بيكو التي صار العربان يدافعون عن خوازيقها المزروعة بينهم كأنها مسلمات هبطت عليهم من السماء.ولما لم يجدوه…!.
خرجوا من الغرفة الخاوية الضيقة الى الحقول الواسعة، لعل وعسى ان يجدوا العم ابو عرب.اثناء عملية البحث، وجدوا جثة العم ابو عرب تتمدد ندية طرية في حقل نعناع بري، تظللها شجرة خضراء….فوقها سرب عصافير تمروح باجنحتها حتى لا تتعفن الجثة بينما يده الناحلة المعروقة تقبض على حفنة من التراب الطاهر.حضر بعض المارة على صراخ الاطفال، ونقلوا الجثة التي تفوح منها رائحة النعناع الی مشرحة المستشفى في المدينة المجاورة لمعرفة سبب الوفاة .. ابتدأ الطيب الجراح بالقلب فوجد فيه قصيدة حب، وخارطة مرسومة باليد للوطن العربي الكبير كانها نسخة منسوخة من الخارطة المعلقة على جدار غرفته.
واصل الطبيب التشريح … فتح البطن…لاحظ الناس ان وجه الجراح اكتسا بالشحوب وبدأت قطرات العرق تتصبب من جبينه.. سأله احد الصبية : دكتور هل مات ابو عرب مسموما ام قتله الجوع .؟! اشاح الطبيب بوجهه وذرف دمعتين ثم اغلق حنايا الجسد الطاهر باحترام وتبجيل مثلما يغلق المؤمن كتابه المقدس وغادر المشرحة من دون ان ينطق بكلمة….. ؟!…