بقلم الاعلامي .. بسام الياسين
((( كنا ثمانية في اسرة متحابة.خمسة اخوان وثلاث اناث.رحلوا جمعياً على حين غفلة،كان آخرهم اخي اسامة،ابو وجيه، ـ يرحمه الله ـ الذي غادرنا الى رحاب الله في شعبان الماضي.لا ابالغ ان قلت :ـ عندما اهالوا عليه التراب،كنت اسمع طقطقة عظامي،وصراخ قلبي في صدري ينتحب كطفل هجرته امه...وداع آخر الاخوان كان صعباً لاحساسي بانني في مواجهة العالم فردا... { واجعل لي وزيراً من اهلي،هارون اخي، اشدد به ازري }...الموت حق، لكنها العشرة الطيبة، وطبيعة التركيبة البشرية...
ما يميزنا وـ الحمد لله ـ ان لنا في رسولنا صلوات الله عليه قدوة حسنة.عندما مات ابنه ابراهيم قال :ـ ان العين لتدمع والقلب يحزن ولا نقول الا ما يرضي الله ...مقالتي ليست شخصية بالمطلق ، إنما تنسحب على الكافة .لذلك اهديها الى ارواح الرجال العظام المتفردون بعطاياهم العظيمة،الذين منحوا حياتنا حياة لا في زيادة عدد ايامها بل في تكثيف حضورها وتعميق معانيها في قيم الحب،الخير ، الجمال... ليس اكتشافاً القول ان للموت خصوصيته و خصائصه المتمثلة :ـ
بالهيبة ، العظمة ، العدالة ،الرحمة... فموت فقير له 'هيبة' عند اهله و معارفه، اكثر من هيبة تنصيب حاكم على عرش دولة ،وعظمته ان الكل طوع قبضته لا يفلت منها احد حينما يحين اجله مهما بلغت منزلته،فيماعدالته تتجلى بان جميع الخلق يتساوون عنده تحت ستة اقدام من بطن التراب، و رحمته ان' الموت رحمة للمؤمن ))) .
*** مفارقات غريبة تشي ان لعبة الموت وراءها ما وراءها من حِكَمٍ بليغة...عِبَرٌ صارخة الدلالة تحمل في ثناياها دروساً عميقة...مواعظ عظيمة لمن يفكر ملياً في اغوار الحياة البعيدة .هم المفكرون الغواصوان الذين يسبرون اغوار الحياة لإلتقاط اللآلي من بحارها لا الهامشيون الذين يعيشون خارج كادرها،ويسبحون على سطحها لجمع القواقع الميتة من شواطئها... { ' ذو العقل يشقى بالنعيم بعقله' / واخو الجهالة بالشقاوة ينعمُ } . ذوو العقول الكبيرة يكتوون بقلقهم رغم النعيم العقلاني،والعلو القيمي الذين يقيمون فيه...منبع قلقهم حيرتهم الحياتية،والاسئلة بلا اجوبة المعلقة في اذهانهم ، وان وجدت فإنها غير شافية.
هؤلاء يرون ان الحياة ابواب دوارة... باب يفضي الى باب في متواليات هندسية بلا نهاية،يمضون نصف اعمارهم في طرح الاسئلة المستعصية المُلغزة... ثم يذوب الزمان والمكان في النصف الثاني من اعمارهم،وهم منشغلون في محاولة تفكيك شيفرات اسئلة النصف الاول ...حال واحدهم على مدار يومه :ـ إلهي اتعبني تفكيري...تعبت انا من انا... لا من احدٍ سواي...ربي إفتح لي كوة نور في جدار عقلي كي تكف روحي المثقلة بالاسئلة عن الطنين كنحلة مقطوعة الاجنحة في ذاكرتي...و تصمت صرصرة صرصار الحيرة في اذني .... ربِ حينما تُغلق الابواب دوني اتسآل :ـ لماذا انا دون غيري تدوي الاسئلة رعوداً في داخلي و تلتمع بروقاً في سمائي من غير مطر يطفيء عطش نفسي التواقة للمعرفة...من غير بقعة ضوء تضيء حروفي المطلسمة ؟!.
كريستان برنارد،جراح القلب الرائد في زراعة القلوب.اجرى اول عمليه في جنوب افريقيا عام 1967 تلك التي شكلت فتحاً في علم الجراحة... نقلة كبرى وقفزة نوعية في الحياة البشرية...ثورة في عالم الطب اعادت الحياة للاموات سريرياً .كانت ولادة ثانية،واخراجهم من ظلمات رحم الموت للجلوس تحت عين الشمس...ذاتها المشارط الحادة التي يستعملها ـ الحمقى للقتل،كان هو الانسان المختلف الذي يعيد ـ النبض الى الشرايين المعطلة لاناس يتأرجحون بين الموت سريرياً والموت كلياً ... على يديه و بمشئة الله افاقوا من غيبوبتهم ، ودب نسغ الحياة في اطرافهم الباردة...رجعوا يمارسون وجودهم،ويبنون قصور احلامهم بعد اوشك ذووهم ان يهيلوا عليهم التراب،لتقتات ديدان الارض على لحومهم.. !.
المفارقة الفارقة ان قلباً غريباً من ذوي متبرع مات حديثاً، يقلب حياة انسان يعيش بقلب معطوب...يبعث فيه الحياة ـ بامر الله ـ على يد نطاسي حاذق،وجراح ماهر مثل الطبيب كريستان برنارد.المفارقة الصادمة ان جراح القلب العظيم ذاته، مات في علة قلبية.لم يستطع إنقاذ قلبه او غيره من انقاذه... فاي معركة خاسرة هذه مع الحياة ؟!. طبيب القلب يخونه قلبه.معادلة مقلوبة. ينجح مع غيره ويفشل مع نفسه ؟! . اصعب انواع الخيانة و اكثرها مرارة... خيانة الذات للذات،لكن اخطرها خيانة القلب لصاحبه وتفريطه بالامانة لمن حمله في صدره، منذ صرخة الولادة حتى شهقة النهاية .و صدقت العرب بقولها يوم قالت :ـ ' من مأمنه يُؤتي الحذر '.
الطبيب الاردني اللامع،محمد متعب الفايز...احد اشهر جراحي القلب في المنطقة العربية.حطم الرقم القياسي في إجراء عمليات القلب المفتوح...انقذ مرضى كانوا في حالة موت سريري...كان مضرب المثل في الانسانية،الايثار ،التفاني في خدمة الناس كافة من دون تمييز بين امير وفقير،رفيع او وضيع...للتخفيف على ذوي القلوب المتعبة من اهل الشمال ، كان يوزع مهامه بين المدينة الطبية في عمان و مستشفى الملك المؤسس في اربد. تميز ـ رحمه الله ـ بحرفية عالية في تخصصه...دقة متناهية في تعامله مع 'موصلات الحياة / الشرايين الدقيقة ' حتى بالكاد تستطيع التفريق بين الفنان الجراح والجراح الفنان.سجله الطبي يؤكد انه اجرى اكثر من عشرة الآف عملية قلب مفتوح دقيقة وناجحة في فترة قياسية... فمن كان يُصدق ان جراح القلب الحاذق،الفياض إنسانية وسماحة...عبقري المشرط،صاحب اللمسة السحرية والملامح السمحة، ذو الابتسامة الودودة التي لا تغادر شفتيه حتى غدت جزءاً من ملامح وجهه يغدر به قلبه في عقر داره،ينسج له كفناً وينصب لها شركاً للايقاع به... الشيء بالشيء يذكر... الدكتور العربي العالمي مجدي يعقوب حصل على لقب ' سير ' من ملكة بريطانيا،ولقب امير القلوب من الناس...اقول و امري الى الله :ـ الفايز يستحق التكريم باحياء اسمه بعد موته،و اطلاق لقب 'مالك القلوب ' لانه ملأ قلوب مرضاه حياة،وامتلك محبة قلوب ذويهم بتوفيق من الله ـ تجلى في عُلاه ـ .
محمد على كلاي،ذو الجسد القوي المتناسق المنحوت على طريقة الآلهة الاغريقية القديمة قوة و جمالا...اسطورة العصر،صاحب الضربة القاضية الذي بلغ به الاعتداد بالنفس و الاحساس بالعظمة ان يقف على الحلبة صارخاً في وجه العالم :ـ انا لست الاعظم...انا اعظم العظماء.لقد كان :ـ { يلسع كالنحله ويطير كفراشه }.أي مفارقة هذه ان يخونه جسده،و يُصاب حامل اللقب العالمي ـ الرجل الاقوى في التاريخ ـ...الاسطورة اللا مسبوقة و اللا ملحوقة بمرض باركنسون ـ الشلل الرعاشي حتى اصبحت عضلاته تهتز كعشبة في مهب الريح لا يستطيع ' الاعظم ' ان يهش ذبابة...وجسده يرقص وحده كانه فقد كوابحه مثل لعبة اطفال قديمة تشتغل على ' زمبرك ' من دون ان يستطيع ضبطه او السيطرة عليه، الى ان انتهى امره ، ان يرتجف طوال يومه كأنه مصاب بحمى الملاريا.
الجاحظ احد ائمة الادب العربي . استاذ البلاغة في اللغة العربية.برع في الادب ،السياسة،التاريخ،النبات،الحيوان،الفلسفة. بلغ من الثقة بعلمه ان وقف موقف المناددة من الفيلسوف اليوناني ارسطو ـ المعلم الاول ومؤسس علم المنطق ـ.كان الجاحظ العقلاني يسخر من ارسطو ان هبط بافكاره الى ما يرفضه عقله وما لا يقبله منطقه.عندما وصل هذا العالم العَلَمُ العلامة من العمر ارذله،و اقعدته شيخوخته عن الحركة.حاول ذات مرة ان يتناول احد المراجع للاستزادة والاستفادة،فتساقطت عليه كتبه الذي امضى عمره بينها،لم تراع إلاً ولا ذمة...دفنته تحتها من دون رحمة حتى لفظ انفاسه الاخيرة في مكتبته،تلك الذي نذر عمره لاجلها.اليس من عجيب المفارقة ان تكون نهايته على يدي من رهن عمره لاجله. لحظة فارقة تستدعي الوقوف و التامل .
الكتاب اعظم منتجات الانسان بالمطلق...اقرب من اقرب اقربائه، افضل من اصدق اصدقائه...بين دفتيه يمضي الانسان العاقل امتع و اجمل اوقات حياته...كل مُتع الدنيا تبلى الا متعة القرآءة دائمة التجدد...كل الاشياء تضمر عدا الفكر ينمو و يرتفع سعره،كل من على الارض يهرم الا الفكر يُجدد شبابه من تلقاء نفسه كالغابات العظيمة....نقيصة العرب انهم لا يقرأون...مفارقة تدعو للدهشة ـ ان امة اقرأ لا تقرأ ـ مفارقة فاضحة،فلا عتب على النخب الجاهلة ان تقود الامة بينما اهل الفكر اما في الغربة او في الداخل يناضلون من اجل لقمة...الفيلسوف الفرنسي اعترض على مذابح الجنرالات في الجزائر فطالبوا بمحاكمته،رد عليهم البطل التاريخي ديغول قائلاً بسخرية ' عار على فرنسا العظيمة ان تسجن فولتير' الذي دخل سجن الباستيل الشهيربسب دفاعه عن الحريات المدنية ... الاديب الارجنتيني 'بورخيس' ابرز كُتّاب القرن العشرين قال واصفاً جنة الله في الآخرة :ـ ( اتخيلها على شكل مكتبة )...نعم الكتاب جنة الانسان على الارض، اما مكتبة الجاحظ فقتلته لان ' من الحب ما قتل ' .
عبد الرحمن الكواكبي ، رائد ومفكر من رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر. احد اهم ابطال الاستقلال والحرية في الوطن العربي.امضى حياته ثائراً مكافحاً ضد الظلم والاستعمار والاستغلال.وضع كتاب طبائع الاستبداد المرجعية الاهم لطلاب الحرية والعدل والمساواة في الوطن العربي...افكاره،كتبه،مواقفه ،قيمه التي دافع عنها هزت عرش الآستانة،فاصدر السلطان العثماني امراً بالتخلص منه. دس له العملاء السم مع القهوة،فمات مسموما...ثائر قتله اصراره على الاطاحة بالمستعمر فاطاحت به افكاره.نهاية مطافه قبر متواضع، وبيتين من الشعر على شاهدة تآكلت حروفها : ـ هنا رجلُ الدنيا...هنا مهبطُ التُقى /// هنا خيرُ مظلومٍ...هنا خيرُ كاتبٍ ....!.
القائمة تطول وتطول...لا مجال للاطالة في مقالة قصيرة لقضية كبيرة تحتاج الى موسوعة .هذا هو ' ابو سليمان 'خالد بن الوليد الفارس الذي حسم معارك فاصلة بسيفه،الموصوف بالمقاتل الذي ' لا ينام ولا يترك الناس نيام'.صديق السيف وتوأم صهيل الخيل، لم يُهزم في حياته مرة واحدة.سجله العسكري مُدّونُ على اعضاء جسده :ـ { ما من شبر الا به طعنة رمح او رمية سهم }.لما دنا الموت منه قال قولته التي لم تزل ترن في مسامع التاريخ مذاك الى يومنا هذا : ـ { وها انذا اموت على فراشي حتف انفي كما يموت البعير }. الاسكندر المقدوني احد اعظم قادة التاريخ تقتله بعوضه،ويفتك البعوض بجيشة الذي يغطي عين الشمس حتى ياتي عليه.لم يسلم منه الا من رحم ربي . ( ربِ رحمتك ارجو ... فلا تكلني الى نفسي طرفة عين... و اصلح لي شأني كله لا اله الا انت ) .
اتسآءل من باب الحب وطلباً للمعرفة،هل الانسان حبيس جسده،وسجين عظامه كسحلفاة تتلفع بصدفتها الثقيلة،ما يجعلها بطيئة الحركة، تنكفأ داخلها رعباً لاقل حركة خوفاً على حياتها ؟!. هل الموت انعتاق من اسار الجسم السفلي الى عالم الروح العلوي ؟!. ربِ مع التسليم المطلق بمشيئتك الربانية .( وما تشاؤون الا ان يشاء الله )،و انت الرحمن الرحيم العادل الحكيم الذي لا تتحرك حركة الا بامرك ولا تسكن ساكنة الا لحكمة منك :ـ ( وما كان لنفس ان تموت الا بإذن الله كتاباً مؤجلاً )... انني بشر خلقتني من طين وما هذه الاسئلة الا ليطمئن قلبي. { و اذ قال ابراهيمُ ربِ ارني كيف تحيي الموتى،قال اولم تؤمن،قال بلى ولكن ليطمئن قلبي }.صدق الله العظيم.
من طبيعتي المبكرة رفض العطالة الفكرية،ثقافة القطيع الاذعانية، وحب الحفر للوصول الى الجذور،لكن عندما تستغلق الامور،وتتعقد المسائل، ارفع اكف الضراعة اليك يا الله، ادعوك دعاء المضطر للاجابة عن مسائل مستعصية تؤرقني وتُشغل ذهني :ـ ربِ زدني علماً،ونَّور قلبي بأنوارك الجلية حتى اعرف الحقيقة بجلاء لا تشوبها شائبة حتى أستجلي مكامن ما التبس عليَّ، لتهدأ روحي القلقة وتسكن نفسي المتوترة...فانت انت يا الله اعطيتني عقلاُ يفضلني عن البهائم،رفعتني من دونية الشهوة الى فضاء العقلانية،وجعلتني في منزلة تداني الملائكة بالعلم و الايمان وديمومة التوق للحقيقة والترفع عن غرور الحياة،مع تسليمي المطلق ان سعادتي في عبادتي لك،وخلاصي بايماني ان لا إله الا انت،وانك انت الحق ووعدك الحق لا شريك لك...!ّ