بقلم الاعلامي .. بسام الياسين
*** إستيقظ مُبكراً كي يتحاشى ازمة المواصلات في مثل هذا اليوم من مطلع كل اسبوع.الناس تتدافع لحجز مقاعدها في الحافلة الهرمة كأنها سفينة الخلاص من غرق يحيط بالركاب من كل جانب.دعك وجهه بالماء والصابون ليغسل عوالق النوم من عينيه،ولتلميع بشرته الداكنه من الافراط في السهر والتدخين. نظر الى المرآة الهرمة المعلقة فوق المغسلة.استغرب من صمودها الاسطوري،رغم ما اصابها من شروخ .اخذ يجفف بقايا الماء العالقة على اطراف ذقنه، ويزيل الصابون المتراكم فوق حواف اذنيه.
ـ على غير المالوف هذه المرة ـ توقف متأملاً وجهه بدقة. من عاداته اليومية حلاقة ذقنه بسرعة دون تدقيق في ملامحه حيث يقوم بهذه المهمة الروتينية بطريقة آلية.الايام لا تعنيه فيما العُمر عنده مجرد رزنامة تتساقط اوراقها،لا يشده فيها سوى ما هو مطبوع على قفاها من آيات كريمة،احاديث نبوية،حكم قديمة، امثال شعبية ، ابيات شعرية،وغالباً ما يحتفظ ما يروق له منها او يحفظه ليستشهد به في احاديثه.هو لا يعير نفسه اهتماماً بالمطلق،وهو لا يدري سببها أهي تركيبته النفسية ام عادة مكتسبة…فديدنه الاسراع في كل شيء،تلك المهارة التي اكتسبها من عمله المكتبي في الوزارة،فقد تدرب على انجاز المعاملات بسرعة، تحت ضغط العمل حتى اصبح كالرجل الروبوت.
….جُلَّ همه في مثل هذا اليوم من كل اسبوع الذي اطلق عليه “يوم الحشر”، مغادرة البيت قبل انطلاق صرخة من احد اطفاله الغارقين في النوم،والوصول الى الوزارة قبل اشتداد “ازمة المواصلات ساعة الذروة الصباحية ” التي تبلغ اسوأ مراحلها، عند وصول حافلات المحافظات التي تقل الموظفين من كل فج عميق،وتقذفهم في المجمع كنفايات بشرية.ما يزيد الطين بلة، ان بيته يقع في منطقة شعبية نائية،جميع قاطنيها من ذوي الدخل المحدود، يعتمدون كلهم على حافلات النقل العام.لهذا فان مشكلته مضاعفة،لذلك عليه القيام بـ ” المدافشة”،و احياناً العراك في موقعين و الا ضاع دوامه.
هذا اليوم المشؤوم ، شده شيء خفي للتحديق في وجهه.لاحظ بعض التجاعيد التي رسمها الزمن في غفلة عنه على صفحة وجهه ،والزحف الحثيث لصلعته من الجبهة الامامية التي احتلت مساحة واسعة من راسه المفلطح. ما زاد الامر سوءاً، الدوائر الزرقاء المحيطة بعينيه الذابلتين الغائرتين في كهفهما اللتين تتحركان بحذر وخوف، كأن صاحبهما اقترف خطيئة لا تغتفر. جفل من منظره الصادم. تضاريس وجهه ليست كما هي… للوهلة الاولى لم يعرف نفسه…خطوط طولية و اخرى عرضية…اخاديد غائرة…مطبات منفوخة،وخيوط شيب غزت حاجبية…!.
فزع من صورته…احس بقشعريرة تضرب جسده مثل زلزال مدمر، قوته اشد من سبع درجات على مقياس ريختر النفسي ضرب جهازه العصبي…ادرك انه لم يعد هو…قطعاً هو شخص آخر…حاول التمرد على واقعه الواقع بإبتسامة وديعه تخفف من وطأة الامر الواقع…لكن دمعة كاوية فرت من عينه،وتدحرجت لتستقر كجمرة على طرف شاربه الذي نسي تشذيبه منذ زمن بعيد،فاصبح مثل حديقة خلفية مهملة لتكديس ” كراكيب العائلة” التي جرى الاستغناء عنها.
لاحظ ان الافكار السوداء اخذت تتخطفه،و الايام الرتيبة تنهشه مثل فريسة،وقعت بين انياب وحش جائع…همَّ بمغادرة المنزل ليأخذ موقعه في الطابور الصباحي لمؤسسة النقل العام،وليتحرر من كابوسه الذي اخذ يطبق على خناقه،ويكاد ان يكتم انفاسه…لا شعورياً، مدَّ يده في جيبه ليتفقد ” الفراطة ” لان سائق الحافلة كل صباح يعاني من ازمة صرافة ،و احياناً كثيرة يخرج عن وقاره رغم كبر سنه صارخاً في الركاب الذين يحملون قطعاً نقدية كبيرة :ـ “انتو بتفكروني البنك المركزي…ربي خلصني من هل المهنة ” ؟!….شعر بهزة تعصف في كيانه.لم يبق من راتبه الهزيل الا بضعة دنانير وقليل من الفراطة فيما الشهر لم تنتصف ايامه.وللتحايل على ذاته المأزومة، قرر ان يعرج على غرفة الاطفال، لعله يأخذ “جرعة معنوية” او ” لحسة سعادة” من النظر الى وجوههم البريئة وهم غاطسون في احلامهم الوردية.انحنى لتقبّيل اصغرهم الذي يحمل له مودة خاصة،وقبل ان يلمسه انفجر الطفل باكياً.
هُرعت الزوجة من الغرفة المجاورة على عجل وكأنها مأمور مقسم سريع الاستجابة ترد من الرنة الاولى ، وبيدها رضاعة الحليب…خضتها بعصبية واضحة ثم اودعتها فم الصغير لتُسكت جوعه وتُسكت صراخه.استدارت نصف استدارة نحو الزوج المتسّمر مكانه مثل نصب تذكاري،اصدرت الامانه امراً بازالته،بناءً على توجيهات مرجعية عٌليا بحجة انه يشوه المدينة ويعيق حركة السير دون ان تنظر اليه لتخبره :ـ ان علبة الحليب نفذت،و كيس الحفاظات لم يبق فيه الا قطعة واحدة،وطلبت منه احضارهما فوراً،فالطفل لا يستطيع الانتظار حتى ” تُشرف سعادتك ” من الدوام.
((( الموظف المقرود…2 )))
*** ورث صديقي الفقر عن جده الثالث عشر.فمنذ ان تفتحت عيناه على الحياة،و هو مثقل بالدين من قمة راسه حتى اخمص قدميه.لذا تراه اما شاكياً همومه او نادباً حظه.في كلتا الحالتين يُصاب بسُعار التدخين، فيشعل سيجارة من اخرى،لدرجة ان صديقه اللصيق في العمل اقسم ثلاثاً :ـ ان المذكور لم يشترِ في عمره علبة كبريت او قداحة…فهو يشعل السيجارة الاولى من غاز المطبخ،ويمضي يومه ينفخ مثل ” كير الحداد “.لهذا تجده يعاني من ربو مزمن،وبعد كل نوبة سعال، فصال عنيف من النحنحة، لطرد مخزون البلغم المتراكم في صدره،لا يلبث ان يعود ثانية ليواصل التدخين،ثم يبدأ بموال شتم مَنْ اخترع الكمبيالة من تحت الزنار،ورغم تسفله اللفظي يعذره من يعرفه،اذ انه لا ينتهي من كمبيالة الا ويوقع اخرى، وكأنها قدر محتوم دُمغ على جبينه.اما اطرف ما روته امه له ان ” الداية” رفضت سحبه عندما تعسر طلقها الا بعد ان وقع لها ابوك ” كمبيالة” ،زاعمة انه على الحديدة لا يربط من لسانه انما ” تكتفه” الكفالة.
تحت ظل هذه الظروف القهرية، تولدّت لدى صديقي عقدة نفسية، تمثلت بفكرة مسيطرة تُعرف في علم النفس بـ ” الوسواس القهري”…فكرة مسيطرة لا يستطيع الافلات منها على مدار الساعة…تطارده مثل ” محضر المحكمة” الذي يتتبعه في كل مكان كظله،وتلازمه كفقره المتوارث الذي يطلق عليه الفقر الازلي و احياناً ” الفقر الجيني” كمتلازمة ” داون” التي تنتج عن تغيرات صبغوية في كروموسومات الجنين.
الفكرة القهرية التي تلح عليه نهاراً وتؤرقه ليلاً،هي لماذا لا يدفنه ذووه واقفاً حين يحين اجله،بدل دفنه مبطوحاً على جنبه ؟!.اذ ان الدفن مبطوحاً ما هو الا تكريس لحالة الانبطاح الدنيوية التي عاشها على امتداد حياته البائسة.فتكريم الميت لا يكون بالمناسف المُجللة باللحم البلغاري،بل دفنه واقفا تحت الارض،ليسترد كرامته المفقودة فوقها.