بقلم الاعلامي . بسام الياسين
((( لسوء حظ الامة،وجود مجموعات منحرفة بين ظهرانيها من مجانين العظمة،عديمي الضمير. اساؤوا وما زالوا يسيئون استغلال الوظيفة،يُسخرونها للاساءة للناس او التجارة او الجمع بينهما.دافعهم فقرهم المعرفي بالله وميلهم العدواني،تعويضاً عن تاريخهم الدوني،وسعياً للارتقاء الوظيفي على آلآم المعذبين…” قصة المقالة”،لمعت في ذهني اثناء متابعه جلسات الاستماع العلنية التي تجري حالياً،امام ” هيئة الحقيقة والكرامة ” لضحايا التعذيب الوحشي في تونس، بحضور مئات الشخصيات الدولية والعربية…ضحايا محبطون منهكون،فقدوا اجمل سنوات اعمارهم في السجون وتعرضوا الى ابشع الجرائم في عهدي بورقيبة وزين بن علي…من باب المصادفة البحتة تزامنت الجلسات مع حصول الضابط السوري المنشق المعروف بـ “القيصر” على المرتبة الثالثة في الشخصية الاكثر تأثيراً في برنامج ( سباق الاخبار ) لتوثيقه آلآف الصور عن القتل والتعذيب الوحشي والانتهاكات الجنسية في سجون النظام السوري،بحكم وظيفته كمصور في البحث الجنائي…حدثان يعكسان ارهاب الانظمة و رهاب المواطنيين .سؤال مفزع يدور في الاذهان الى متى تبقى الانظمة العربية تعامل مواطنيها كقطعان بهائم او اسراب حشرات ؟! ))) .
{{{ بنفاقه اللامسبوق و افعاله المشينة اعتلى هرم دائرته،و في فترة قياسية جمع ثروة كبيرة بتوظيف الوظيفة لمآربه الشخصية. حسده عليها الاغنياء قبل الفقراء…ظل يمتطي شهوة رغباته،و يسيء للاخرين بسادية وحشية على مدار عمله التنكيلي بخلق الله . سنوات ثم جاء اليوم الموعود. كانت الانعطافة التي قصمت ظهره.اصابه وجع عارض.لم يأبه به بدايةً..العناد احد تركيبته النفسية،لشخصيته المركبة البالغة التعقيد. واصل لهاثه خلف الدنيا دون اكتراث… بعد ايام قليلة اشتد عليه وجعه،فاضطر مرغماً استشارة طبيبه.نصحه بمراجعة المستشفى لعمل التحاليل اللازمة والصور الشعاعية… في المستشفى احتجزه الطبيب الاختصاصي فوراً ، و اوصى بادخاله من دون مناقشه،ثم طلب من مرافقه / سائقه ابلاغ اهله و احضار مستلزمات “النوم .سعاله الموصول،لهاثه المتصل دون بذل مجهود،حركة العينين البطيئة في محجريهما.اعراض استنفرت الطبيب.نظرة الطبيب الثاقبة لم تخب،فقد دلت التحاليل فيما بعد كما توقع الطبيب .المرض الخبيث انتشر في رئتيه.قرر إجراء جلسات كيماوية له وبإشرافه شخصياً..فالمريض من علية القوم رتبوياً،اجتماعياً،مالياً وصاحب اسم له رنين مرعب.
منذ استئصال ” الخزعة ” ادرك ـ الباشا ـ ان ايامه انتهت.وفي افضل الاحوال باتت اقل من قليلة.هو اليوم،سجين الغرفة الحثيثة.تذكر الزنازين الرطبة المعتمة،ومعاناة من دخلوها ظلماً او وشاية…ها هو اليوم في غرفة ضيقة كالحة مبطوح على ظهره،ومربوط جسده بالانابيب وكمامة الاوكسجين تُغطي وجهه المُصفر…لا يستطيع الحركة او الوصول الى الحمام الواقع على مسافة خطوات من سريره. ـ يا سبحان الله ـ كان هو…. لكنه الآن كأنه لم يكن الذي كان. كان يأمر فيطاع.يشير باصبعه، فيركض الرجال صوبه ـ امرك سيدي ـ .كانت طلباته اوامر تنفذ في الحال من دون سؤال.تذكر انه كان يخلع من يشاء،ويزرع من يشاء من بمجرد توقيع.
الآن هو جثة هامدة تنتظر من يدفنها…الكيماوي يزيده شقاءً والمسكنات مفعولها قصير.شريط سريع مر في ذهنه…لم يحصل على كرسيه بالكفاءة انما كانت مكافاًة روافعها، المحاصصة،الجغرافيا،الوراثة او خدمات قذرة من تحت الطاولة،لا يدري بها الا عالم الغيب والشهادة…المهم جاءه الحظ على دابة عرجاء لم يحظ بها العباقرة او الاذكياء… في المدرسة ،في الجامعة،في الحياة كان شخصاً عادياً.لم يتميز علمياً،سياسياً،ابداعياً…امضى حياته الدراسية على الحافة.كان يخاف الاقتراب من السياسة حتى انه كان يتحاشى اقرانه لضعف شخصيته….لم يفلح في شيء سوى إحتساء الخمرة ومعاكسة البنات،وارتداء البناطيل الضيقة.
زرته على مضض لمعرفتي اليقينية انه لا يحب ان اراه ضعيفاً.ما ان ولجت غرفة العناية الحثيثة،و اذ بدمعة تفلت من عينية رغماً عن انفه… لم يستطع حبسها رغم رباطة جأشة….بدوري تألمت عليه كانسان يهوي من مكتبه الفخم الى الغرفة الحثيثة ، متسائلاً في قرارة نفسي اين يفر هذا الشقي من الله ؟ّ!. ( … يوم يفر المرء من اخيه و امه و ابيه وصاحبته وبنيه….). خيم صمت مطبق على لقائنا قبل ان تلتقي عيوننا.بادرني بالقول :ـ اعترف للمرة الاولى بعد طول مكابرة،انني لم اذق طعم السعادة في حياتي مرة واحدة ،رغم الهالة المصطنعة التي تُحيط بي.
ظننت انني حققت الكثير في حياتي،ولم اتخيل انني ساموت منبوذاً كبعير اجرب. الناس تنتظر ساعة خلاصهم مني… الاصدقاء عندما عرفوا حقيقة مرضي، انفضوا من حولي.اولادي يشحذون سكاكينهم كأن ليلة القدر نزلت عليهم، ليسعدوا باموالي… منذ دخولي المستشفى وهم مشغولون عن زيارتي باحصاء الثروة.كنت افكر انني عبقري زمانه لا يُشق له غبار… كنت ـ للاسف ـ اشعر بالغبطة حين انصب الافخاخ لاصطياد الآخرين،وارسم المكائد للايقاع بالخصوم…ثقتي بنفسي تتعاظم عندما انفذ المهمات القذرة المستحيلة….إنقلبت الامور و انا سجين السرير،مثقل باكياس الدم،الجلوكوز،و اشياء اخرى اخجل الافصاح عنها…؟! ثم سألني من دون ان ينظر ناحيتي :ـ خمّن ما يدور في راسي و ـ انت ـ تمتاز بحدسك ؟!. قلت لا اعلم ، فانت ادرى بمكنونات نفسك…قال و الالم يعتصر قلبه :ـ اشعر انني كذبابة وقعت في شبكة عنكبوت،كلما حاولت الافلات التفت الخيوط على خناقها او دابة سقطت في ارض موحلة كلما تحركت ابتلعتها الارض.
اطرق قليلاً ثم قال مستأنفاً حديثه :ـ قبل ايام زارني ابني الاصغر،و انا بين اليقظة والنوم بعد جرعة كيماوية مؤلمة… شعرت بانفاسه تقترب من وجهي.ظننت للوهلة الاولى انه سيطبع قبلة حانية على جبيني.اعتقد انني نائم،فسأل الطبيب بلهفة هل سيعيش ابي طويلاً ؟. اجابه :ـ الاعمار بيد الله اما طبياً كما تقول التقارير العلمية فايامه معدودة…رد الولد المدلل :ـ ” الله يطمنك يا دكتور….لقد تعذب والدي كثيراً،ولا احب ان اراه يتلوى الماً…ربنا يخلصه من اوجاعه و “يختار إله الاحسن “.وخرج ليلحق ” زفة القسمة “… يؤلمني اكثر، ما سمعته ان ابنائي يتقاتلون على الغنيمة. لا ابالغ ان قلت :ـ انا افقر مخلوق على ظهر البسيطة…واشعر ان حديث رسول الله صلوات الله عليه ” أتدرون مَنْ المفلس ؟!” يلبسني مثل جلدي،وحين استرجعه يقشعر بدني وترتجف فرائصي “……ان المفلس من امتي، ياتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة،ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا واكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا ….”.
قطع كلامه حين دخلت الممرضة لإعطائه حقنة لتسكين آلآمه المبرحة.وعندما غادرت قال :ـ انا الان في مواجهة مع ضميري وحساب قاس مع نفسي .يعني انني اقطف ثمار جشعي و انانيتي…. سحبتني الوظيفة مثل ساقية حملت على سطحها خرقة متسخة الى مستنقع آسن…كذلك انا لم انتبه الى نفسي،فعمى البصيرة،جرجرني الى العناية الحثيثة.لم اتصور هذا الموقف الرهيب .فعندما تقف على الحافة،تدرك ان السعادة الحقيقة لا تكون الا مع الله….السعادة في راحة البال لا في المال… في البساطة وعمل ما ينفع الناس لا في عرقلتهم و الابهة المصطنعة….فالخلق كلهم عيال الله .السعادة في زرع الابتسامة لا في التعسف في استعمال السلطة وتخريب بيوت الغلابا….لم يعد ينفع الندم ….لقد ” فات السبت …لا احسد الا اصحاب النفوس المطمئنة.
انا على قناعة ان المُشيعين سيحملوني الى قبري ولسان حالهم ـ كلهم بلا استثناء ـ عليه اللعنة… عاش ظالماً ومات مذموماً…حتى ان من يمدحني مجاملة يضمر لي المذمة.ما يؤرقني هل تُقبل مني التوبة بعد كل افعالي البشعة ؟!…اجبت نعم ان الله يغفر الذنوب جميعاً وهو الغفور الرحيم،وهو يقبل توبة العبد ما لم يغرغر…قال لي بتوتر :ـ لم افهم ما ترمي اليه ؟!….اجبته باختصار شديد :ـ يقبل الله توبة العبد ما لم يكن التائب في ـ حالة احتضار ـ …فتوبتك ـ يا باشا ـ جاءت متأخرة،ناهيك ان التوبة لا تُسقط حقوق الناس ومظالمهم…. شعرت ان كلماتي نزلت على راسه كالصاعقة،فغيرت تقاطيع وجهه البائسة،وتسارعت انفاسه.
اطبق عينيه وبدأ يشخر كشاحنة متهالكة تصعد احد المرتفعات الحادة، بينما صدره ينفث ريحه مثل كير حداد قديم لا يزال يستعمل الفحم الوسخ…ضغطت الجرس لاستدعاء الطواريء…وبعد عدة محاولات جاء الطبيب المقيم.وضع السماعة على قلبه،وراح يتفحص دقاته.في هذه الاثناء اتجهت للقبلة رافعاً يداي،سائلا الله ان….الا ان الطبيب سرعان ما نزع السماعة عن اذنه،وامسك يدي قائلاً :ـ ارجوك ، لا تلعنه او تترحم عليه….اترك حسابه لله فـهذا الرجل، لم يترك احداً من شره،انا احد ضحاياه عندما كنت طالباً في الجامعة … ولولا دعوات امي في جوف الليل،وواسطة ثقيلة ـ لاجهز عليَّ وقضى على مستقبلي… لكن لا بأس،سأقاضيه امام الله…اما شلته الباقية يجب تُحاسب…ان كل من اقترف جريمة سرقة،تعذيب،اهانة،ظلم بحق المواطن، يجب ان يحاسب حساباً عسيراً،كي يعترف الجلاد بما فعلت يديه،ويعرف الناس الحقيقة كاملة …كل الحقيقة …لتهدأ القلوب وتصفو النفوس حتى نطوي الصفحة القديمة وتفتح صفحة جديدة.