صحيفة العرّاب

هل تستعد الصين لحرب تجارية جديدة؟ وما أهدافها؟

  يتزايد اقتناع صانعي السياسة الصينيين بأن الولايات المتحدة مصممة على تنفيذ إستراتيجية كاملة لاحتواء الصين، ولهذا السبب يتحدث المسؤولون والأكاديميون والإعلاميون الصينيون بشكل متزايد عن الاستقلال الذاتي ويستعدون لفصل قسري عن الولايات المتحدة.

 
وفي تقرير نشرته مجلة "فورين بوليسي" (Foreign Policy) الأميركية تقول الكاتبة زونغيوان زوي ليو إن فانغ شنغهاي نائب رئيس لجنة تنظيم الأوراق المالية الصينية اقترح تسريع تدويل اليوان للتحضير لمخاطر الفصل المالي القسري، ويجادل أكاديمي مقيم في شنغهاي بأن "مكاسب السلام قد انتهت، وأن الوقت قد حان لأن تستعد الصين لفصل كامل"، وتعترف الأصوات الأكثر اعتدالا بالتغيرات العميقة في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين الكامنة وراء "نظرية الفصل" ودعت الصين إلى "الاستعداد للأسوأ والسعي نحو الأفضل".
 
وتتوقع الكاتبة أن يكون التعزيز الإضافي للجيش الصيني جزءا من الرد المحتمل، فيما من المنتظر أن تلجأ الدولة الحزبية أيضا إلى تشديد اثنين من القيود الاقتصادية، وسوف تضاعف من متابعة إستراتيجية الاعتماد على الذات وتحمي الاقتصاد الصيني من العقوبات مع تنمية قدراتها الجيواقتصادية الهجومية من خلال تعزيز موقع الصين الإستراتيجي في سلاسل التوريد العالمية وتوسيع نفوذها في الممرات البحرية للتجارة الدولية.
 
ويمثل "الاستقلال والاعتماد على الذات" أساس القرار التاريخي للحزب الشيوعي الصيني الصادر في عام 2021، وقد ذكّرت العقوبات القاسية التي فرضها الغرب مؤخرا على روسيا القادة الصينيين بضرورة تعزيز الاستقلال الاقتصادي.
 
وفي 25 فبراير/شباط الماضي -وهو اليوم التالي لحرب روسيا على أوكرانيا- جادل مقال في صحيفة "بيبولز ديلي" (People’s Daily) بأن "الاستقلال والاعتماد على الذات يضمنان أن قضية الحزب والشعب ستستمر في تحقيق الانتصارات".
 
من جهتها، تعهدت الحكومة مؤخرا بتحسين الاعتماد على الذات من خلال بناء "سوق وطني موحد"، ويتطلع صناع السياسة إلى إعداد الاقتصاد الصيني لتحمل الضربة الاقتصادية الشديدة الناجمة عن الانفصال القسري.
 
تعزيز اليوان الصيني
وتوضح الكاتبة أن أحد الأساليب الرئيسية لإستراتيجية الصين الدفاعية ضد الاحتواء الغربي المتصور هو بناء نظام تجارة السلع العالمية القائم على اليوان، في محاولة لتحسين قوة تسعير اليوان وتعزيز قوة الصين في تجارة الموارد العالمية ومركزها المالي العالمي، وفي الوقت الراهن يقبل كبار مصدري النفط للصين مثل روسيا وأنغولا وفنزويلا وإيران ونيجيريا عملة اليوان في المبادلات مع الصين.
 
وقد أطلقت بورصة شنغهاي الدولية للطاقة عقود شنغهاي الآجلة للنفط الخام القائمة على اليوان في عام 2018، وفي أبريل/نيسان 2021 بلغ إجمالي حجم التجارة للعقود الآجلة للنفط باليوان 44 تريليون يوان (6.7 تريليونات دولار) مع عملاء من 23 دولة.
 
ويمكن لمصدري النفط تحويل عائداتهم النفطية باليوان إلى ذهب في بورصات الذهب في شنغهاي وهونغ كونغ، وتشير قابلية التحويل البيني إلى أن الصين (أكبر مستورد للنفط في العالم) لديها بنية تحتية محلية كاملة لتجارة النفط بشكل غير مباشر باستخدام الذهب.
 
وحسب الكاتبة، يمكن للصين أن تستفيد من التحول الحالي في مجال الطاقة لتطوير "الغازيوان" لمحاكاة البترودولار، ومثلما تعتمد الدول المنتجة للنفط على عائدات الدولار التي لا يمكن إنفاقها بحرية في أي مكان آخر فإن الدول المنتجة للغاز مثل روسيا وإيران يمكن أن تعتمد على اليوان.
 
وفي تقرير الصين لتنمية الطاقة العالمية لعام 2017 اقترح العلماء الصينيون مفهوم "الغازيوان"، ونظرا للطبيعة المجزأة لأسواق الغاز الطبيعي العالمية ومكانة الصين باعتبارها مشتريا رئيسيا فإن ظهور "الغازيوان" ليس حلما بعيد المنال.
 
يتجاوز إنتاج روسيا وإيران والصين مجتمعة من الغاز الطبيعي المسال إنتاج الولايات المتحدة، ولديها جميعا بنية تحتية مالية غير دولارية، وقد أصبحت الصين أكبر مستورد للغاز الطبيعي المسال في العالم، ومن جهتها، تعمل إيران -التي تشترك مع قطر في أكبر حقل غاز في العالم- على إحياء خطتها لتصدير الغاز الطبيعي المسال المتوقف في السابق بسبب العقوبات، مع محاولة الاتحاد الأوروبي خفض اعتماده على الغاز الروسي كعقاب على غزو الرئيس فلاديمير بوتين لأوكرانيا.
 
ومع أن الصين لم تقدم دعما ماديا لروسيا أو ساعدتها في تفادي العقوبات الغربية تضاعفت واردات الصين من الغاز الطبيعي المسال من روسيا في فبراير/شباط الماضي، ويمكن القول إن القوة الجيواقتصادية الجماعية للصين وروسيا وإيران أقوى بكثير من منظمة أوبك.
 
وترى الكاتبة أن ارتفاع الطلب العالمي على الغاز الطبيعي باعتباره وقودا انتقاليا في التحول نحو صافي انبعاثات صفرية وفصل أسعار الغاز عن أسعار النفط يوفران ظرفا كليا سليما لظهور الغازيوان، ومع ذلك لن يكون من السهل على اليوان أن يصبح بسرعة العملة المهيمنة ويشكل تهديدا حقيقيا لهيمنة الدولار.
 
إن الافتقار إلى الأصول الجذابة المقومة باليوان وإلى السلع والخدمات عالية القيمة المرغوبة المصدرة من الصين يحول دون ظهور البترويوان أو الغازيوان في أي وقت قريب، كما أن إدمان الصين على فائض الحساب الجاري وحساب رأس المال المغلق نسبيا يمنع سندات الحكومة الصينية من منافسة سندات الخزانة الأميركية.
 
المدفوعات والمراسلات المالية
ومن بين العناصر الأخرى للنظام المالي الذي أطلقته الصين نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود التابع لبنك الشعب الصيني المدعوم باليوان الرقمي، وقد تم إطلاق هذا النظام عام 2015 ليصبح بنية تحتية مالية مملوكة للدولة يمكن أن تسمح للكيانات الخاضعة للعقوبات بالدخول إلى الأسواق العالمية على الرغم من أن التهرب من العقوبات لم يكن الدافع الأصلي لإنشائه.
 
والهدف من تطوير نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود كان في البداية تعزيز تدويل اليوان، ويُنظر بشكل متزايد إلى هذا النظام باعتباره بديل الصين للنظام المصرفي العالمي "سويفت" حتى قبل أن يتم إقصاء بعض البنوك الروسية منه، ويجمع نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود بين خدمات المراسلة المالية ومهام التسوية في منصة واحدة، ويعد البديل الصيني لمجموعة "سويفت+شيبس" (SWIFT+CHIPS) التي تنقل الدولار عبر مؤسسات مختلفة عالميا.
 
وتشير الكاتبة إلى أن إجراء المراسلات المالية واستكمال التسويات الداخلية باستخدام هذا النظام من شأنه أن يعمل على استبعاد خطر كشف بيانات المعاملات أمام الولايات المتحدة، وبالتالي قطع تدفق المعلومات التي تستدعي العقوبات واستخدام اليوان في التسويات يلغي الدولار من المعاملات باستثناء الحاجة لنظام "شيبس" "Clearing House Interbank Payments System) "CHIPS) كما هو الحال الآن، وهذا النظام محدود في القدرة الاستيعابية والتغطية الدولية ويشمل الآن 76 مشاركا مباشرا، 64 منهم في آسيا و8 في أوروبا وواحد فقط في أميركا الشمالية.
 
تعاون بنك الصين مع نظام سويفت للحصول على خدمات محلية يمكن من الناحية النظرية أن يخفف العقوبات، وقد أطلق مشروع مخاطر مشترك مع سويفت بقيمة 10 ملايين يورو يسمى "خدمات معلومات بوابة التمويل" في يناير/كانون الثاني 2021 قبل وقت قصير من فرض كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وكندا عقوبات على العديد من المسؤولين الصينيين لانتهاكات حقوق الإنسان ضد الإيغور.
 
ويهدف هذا المشروع إلى إنشاء شبكة محلية لخدمات المراسلات المالية وإنشاء مستودع بيانات محلي لتخزين ورصد وتحليل معلومات رسائل الدفع عبر الحدود.
 
يذكر أن نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود ومعهد أبحاث العملات الرقمية التابع للبنك الصيني مساهمان في مشروع "خدمات معلومات بوابة التمويل"، ويشير وجودهما إلى أن المشروع مخول لتشجيع استخدام اليوان الرقمي في المعاملات عبر الحدود، وبمجرد أن يصبح واقعا يمكن أن تكون هذه آلية أخرى للسيطرة على الضرر إذا تم إقصاء البنوك الصينية الكبرى من نظام سويفت.
 
إجراءات قسرية
من الناحية الدفاعية، تعد هذه الإجراءات فعالة تجاه محاولة الصين حماية نفسها من عواقب إستراتيجية الاحتواء الأميركية، لكن في أسوأ سيناريو لحرب مالية ناجمة عن حدث متطرف -مثل اشتباك عسكري حول تايوان- يمكن لبكين أن تنفذ إجراءين انتقاميين هجوميين: تعطيل سلاسل التوريد العالمية وحصر الوصول الأجنبي للموانئ التجارية الخاضعة لسيطرة بكين، أما الاضطرابات المدروسة في سلاسل التوريد فيمكن أن تقع بشكلين على الأقل: تطبيق الإطار التنظيمي المناهض للعقوبات للحدد من الوصول إلى السوق الصينية، وفرض ضوابط على الصادرات على المواد الحيوية.
 
ومنذ سنة 2018 أصدرت الصين 5 تشريعات تهدف لعرقلة تأثير العقوبات الأميركية، وهي: القانون الدولي للمساعدة القضائية الجنائية، وأحكام قائمة الكيانات غير الموثوق بها، والقواعد التي تتجاوز الحدود الإقليمية، وقانون مكافحة الجزاءات الأجنبية، وقانون مراقبة الصادرات، وهو أول قانون صيني ينشئ نظاما شاملا ومتكاملا لتنظيم مراقبة الصادرات، فضلا عن ورقة بيضاء لمجلس الدولة بشأن مراقبة الصادرات الصينية.
 
ومع تبلور تطبيق هذه القوانين يمكن للحكومة الصينية أن ترغم الشركات الأجنبية على الاختيار بين السوق الصينية أو السوق الأجنبية، فيما تردع وتعاقب التعاون في الإجراءات الأجنبية التي قد تشكل تهديدا للأعمال والمصالح الوطنية الصينية، وبشكل أكثر تفصيلا يُظهر كل من قانون مراقبة الصادرات والورقة البيضاء أن صانعي السياسة في الصين لديهم رؤية واضحة لكيفية الاستفادة إستراتيجيا من نفوذ الصين في سلاسل التوريد العالمية للرد على القيود الأجنبية وحماية المصالح الوطنية للصين.
 
ووفقا للكاتبة، يمكن لإطار مراقبة الصادرات أن يفسح مجالا جديدا للحكومة الصينية للحد من صادرات العناصر الأرضية النادرة بموجب استثناء الأمن القومي قواعد منظمة التجارة العالمية ضد القيود المفروضة على التجارة الحرة، ويمكن لقانون مراقبة الصادرات أن يزود الصين بالأساس القانوني اللازم لاستخدام مخاوف الأمن القومي للحد من صادرات العناصر النادرة في تصنيع الإلكترونيات الاستهلاكية ذات التقنية العالية والأسلحة الأميركية المعقدة.
 
وبطبيعة الحال، قد يؤدي الإفراط في الاعتماد على مثل هذه الإجراءات القسرية إلى نتائج غير مرغوب بها، فلا تحتكر الصين العناصر نفسها التي لا تعد بهذه الندرة في الواقع وإنما سلسلة معالجة العناصر الأرضية النادرة بفضل ما تسببه من تكاليف ومخاوف بيئية، وفي حال تسببت تهديدات بكين المقترحة في قلق زائد فإنه لدى الولايات المتحدة القدرة على اتخاذ تدابيرها قبل وقت طويل من حدوث أزمة، وذلك بإنشاء سلسلة معالجة بديلة خاصة بها.
 
وتوضح الكاتبة أن ظهور الصين كقوة رائدة في التجارة البحرية يوفر مصدرا آخر للضغط في أوقات الحرب الاقتصادية، كما أن عمليات الاستحواذ الصينية للموانئ تمنح الصين سيطرة أكبر على تدفقات الشحن العالمية التي يمكن أن تقيد قدرة الأجانب على تأمين سلاسل التوريد، وبحلول سنة 2019 كانت الصين قد استثمرت في 101 مشروع للموانئ على مستوى العالم.
 
وفي الختام، إن كل هذه الإستراتيجيات تنطوي على مخاطر خاصة، وبينما يجب على إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أن تسعى إلى التحدي والتعايش مع الصين من خلال إستراتيجية "الاستثمار والمواءمة والمنافسة" فإنها يجب أن تقاوم إما إغراء المبالغة في تقدير قدرة الصين وشيطنة بكين، أو الرفض الساذج لقدرة الصين على تحدي القيادة العالمية الأميركية وهيمنة الدولار.
 
ويمكن لواشنطن تهميش محاولة الصين تحييد القوة الاقتصادية الجغرافية للولايات المتحدة، وذلك بتعزيز جاذبية القيادة الأميركية وجاذبية النظام العالمي الحالي، وقد حان الوقت للولايات المتحدة لأن تنصت بتعاطف للبلدان التي تتوق إلى دعم التنمية أو تطالب بالتمثيل في النظام العالمي الحالي، قبل الاستجابة لنداءات الصين بدلا من ذلك.