صحيفة العرّاب

العدوان يكتب: ولي العهد .. ورسائل جيل المئوية الثانية

د.رائد سامي العدوان

 كم كانت جميلة ومؤثرة، إطلالة ولي عهدنا المحبوب سمو الأمير الحسين بن عبد الله الثاني على قناة 'العربية'، والأهم، كم أشاعت جوا مفعما بالأمل والثقة بمستقبل بلدنا، وهو يدشن مئويته الثانية في ظل القيادة الهاشمية الحكيمة. حقيقة يحار المرء وهو يحاول التعليق على إطلالة سمو ولي العهد، في التركيز على الرجل أم على ما عبر عنه من آراء ورؤى، في شتى ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها، لكن ظني أن الأمرين لا ينفصلان، فوجهات نظر الأمير هي جزء من تربيته وشخصيته، وطريقته في التفكير والتعبير هي في صلب تكوينه 'كرجل دولة وقائد'، تربى في مدرسة عاهلنا المفدى وتحت نظره وتوجيهاته.

بداية، يمكن اعتبار مواقف وآراء سمو الأمير نموذجا للدراسة والتأمل، في مميزات ومواصفات ما يمكن تسميته 'جيل المئوية الثانية'، وإضاءة على أبرز مرتكزات شخصية هذا الجيل، والتي يمكن إجمالها في نقاط سريعة، ما أحوجنا، كطبقة سياسية، ونخب اقتصادية واجتماعية، بل وكمواطنين عاديين لاستحضارها من أجل تحقيق انطلاقة قوية وواثقة لوطننا وهو يخطو خطواته الأولى على درب مئويته الثانية؛ وسأعرض لها باختصار:

- الوعي: على عكس التصور السائد الذي يحصر الحكمة والوعي بالخبرة والتجربة، والتي يتخذها -للأسف- كثير من نخبنا مبررا لاستمرار 'تهميش' الشباب، وحصرهم في أدوار 'تكنوقراطية' تقتصر على تنفيذ رؤى ومقاربات 'أهل الخبرة' من قادة ورجالات المئوية الأولى! فقد أظهر سمو الأمير المحبوب، مستوى من الوعي الملفت للنظر، بمختلف القضايا السياسية والاقتصادية، بل وأعقد المحطات التاريخية والقضايا الاجتماعية في أكثر مناطقها حساسية، دون تكلف في الكلام، ولا استخدام لمصطلحات تقنية تحجبه عن المتلقي العادي، ولا لغة 'خشبية' تجتر مقولات محفوظة عن ظهر قلب، وشعارات لا تنفك مؤسسات التعليم ووسائل الإعلامترددها على مسامعنا صباح مساء.

وعي مركب بأهمية العمل مقابل التنظير، وبأهمية الصدق والنجاعة والإنجاز بدل الفذلكة الكلامية، وبأهمية إدارة شؤون الناس بالبرامج على حساب الأيديولوجيا! وأخيرا، هو وعي يشكل 'تحديثا' لوعي الآباء والأجداد، وليس قطيعة معه، ويؤكد -لمن لا يزال بحاجة إلى دليل- إلى أن جيل المئوية الثانية، هو امتداد لجيل المئوية الأولى، وإن بأدوات ومقاربات وآليات عمل جديدة، تناسب عصره، وبالتالي لا معنى لوضع الجيلين على طرفي نقيض.

- الثقة: كان هذا المعنى حاضرا في أبسط مفردات سمو الأمير، لغة جسده، سلاسة وتدفق الكلام من فمه، وهدوء ردود أفعاله تجاه أسئلة مضيفه. هذه الثقة التي ظهرت في تفاصيل شخصية سمو الأمير، تكرست أكثر في نظرته للمستقبل. فهو وإن أظهر وعيا كبيرا بعظم التحديات التي مر بها الأردن خلال مراحل مئويته الأولى، وأقر باستمرار كثير من هذه التحديات على المديين القصير والمتوسط، بل وتوقع مواجهة تحديات أخرى بطبيعة مختلفة، لم يؤثر ذلك كله على ثقته بمستقبل الأردن وأجياله المقبلة. الأجمل، أن هذه الثقة لم تستند إلى 'رومانسيات عاطفية'، بل إلى تخطيط وبصيرة، وإدراك لحجم الفرص التي يحملها المستقبل للأردن، بحجم التحديات التي يتوقعها، وهو بذلك أشاع نمطا من الثقة قابل للانتقال إلى من يسمعه، وهذا هو الأهم.

- الشجاعة: وهي مظهر متوقع من سليل الدوحة الهاشمية، بحكم تربيته في مدرسة سيدنا، وتكوينه العسكري، والمهام والمسؤوليات التي تدرب على القيام بها كولي للعهد. شجاعة في مواجهة 'أشباح الماضي'، وشجاعة في مواجهة 'تحديات الحاضر'، وشجاعة في مواجهة 'تعقيدات المستقبل'. شجاعة متبصرة أبعد ما تكون عن الانفعال والارتجال والتهور، نتمنى أن تمنح الثقة لجيل المئوية الثانية الذي يمثله سمو ولي العهد، بقدرته على قيادة بلادنا خلال مقبل السنوات والعقود.

- الوطنية: لقد بدا حرص سمو ولي العهد على التعبير عن 'الثوابت الوطنية' الحقيقية، في كل إجاباته على مختلف المحاور التي تضمنتها أسئلة المقابلة. بعد كان حاضرا وهو يشيد بوعي أبناء شعبه، وقوة مؤسسات وطنه، ورؤية قيادته الاستشرافية. كما حضرت عندما تعلق الأمر بنسيج المجتمع الأردني الغني بتنوع هوياته الفرعية، التي لا تشكل لأي من أبنائه بديلا عن هويتهم الجامعة. كما برزت عند حديث سموه عن علاقات الأردن مع محيطه المباشر ودول العالم أجمع، وعمق انتماء الأردن العروبي، ورهانه على التكامل مع أشقائه.

وكما هو متوقع، كان سمو الأمير مميزا عند الحديث عن قضيتنا الوطنية الأولى، قضية فلسطين وشعبها، وأماكنها المقدسة التي تطوق أعناقنا أمانة رعايتها، وهو ما ترجم من خلال الوقفة الصلبة التي تقفها بلدنا في مواجهة التغول الصهيوني على قطاع غزة والضفة الغربية.

- العملية (البراغماتية): كأحد أبناء جيل الألفية الثانية، نجح سمو الأمير، وبشكل مميز في إلقاء الضوء على الطريقة التي يفكر فيها أبناء جيله. جيل يعتمد على مقاربة التحديات بالبرامج المدروسة القابلة لقياس نتائجها، والتي اعتبرها 'عابرة للانتماءات' السياسية والأيديولوجية والمناطقية. فكر يرتب الأولويات بطريقة عملية غير تقليدية، وهو ما بدا واضحا في حديث سمو الأمير عن تجربة التعليم التقني والمهني، على حساب مراكمة الخريجين بشهادات عليا لا تساعدهم في إيجاد مكان مضمون في سوق العمل؛ وكذا تركيزه على ما يمكن تسميته 'ميزات الاقتصاد الأردني التنافسية'، والمتمثلة في كوادره البشرية، ورهانه على تطوير التعليم والصناعة والسياحة؛ الأمر الذي يشكل قطيعة مع خطاب 'محدودية الموارد الأردنية'، التي تحكم على خياراته في إدارة اقتصاده وشأنه العام بالمحدودية، عبر اعتماد مقاربات محدودة بدورها، تكتفي باجترار 'مسلمات' كثيرين من خبراء المئوية الأولى!.

تركيزي على هذه الملامح، لا يغفل طبعا عن ملامح أخرى كثيرة حفلت بها هذه المقابلة التلفزيونية المميزة، التي لا يكفي مقال واحد لتغطيتها، لاسيما تمكن سمو الأمير من ملفاته، وتدعيم كلامه بالأرقام والإحصائيات، واعتماده الإجابات الواضحة والمختصرة، بدل الجمل الطويلة والمسترسلة، وغيرها الكثير. كما لا يخفى أثر هذا اللقاء النادر على إلقاء الضوء على شخصية 'الأمير الإنسان' من خلال حديثه عن محطات عديدة في تربيته، وحياته داخل أسرتيه الكبيرة والصغيرة.

خلاصة ما اود قوله، والذي دائما ما أكرره وسأظل وفيا له، إن ثقة سمو الأمير الحسين بمستقبل وطنه، والمستمدة من ثقة جلالة سيدنا المفدى الملك عبد الله الثاني بهذا المستقبل، يجب أن تنعكس في سلوك ومقاربات نخبنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية برمتها، بمنح مزيد من الثقة في الشباب، ذكورا وإناثا، ومقارباتهم العملية المبنية على البرامج لا الأيديولوجيا، ووضعهم في مركز القرار لا هوامشه، لأنهم من سيقع على عاتقهم -أكثر من غيرهم-مهمة الإبحار الآمن بسفينة الوطن خلال مئويته الثانية، دون التعلل بنقص الخبرة وحماس الشباب وغيرها من المقولات، التي أتت مقابلة سمو الأمير الحسين مع قناة العربية، لتؤكد تهافت معظمها.

ختاما، فإن وطنا يقوده جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم، وعلى يمينه سمو الأمير المحبوب الحسين بن عبد الله الثاني، وبهمة رجاله ونسائه من شباب وشيوخ، كل في موقعه، وفق رؤية وتخطيط استشرافي يضع مصلحة المواطن على رأس أولوياته، هو وطن سيبقى عزيزا شامخا، مهما صعبت الظروف وعظمت التحديات، وسيبحر بأمان إن شاء الله خلال المئويات المقبلة من عمره المديد