كان للاختراق المفاجئ وغير المتوقع لتحالف الأحزاب اليسارية أو ما يسمى بالجبهة الشعبية الجديدة، في الانتخابات البرلمانية الفرنسية يوم الأحد، وقع الصاعقة على أحزاب اليمين المتطرف في البلاد، والتي كانت قد فازت في الجولة الأولى من الانتخابات المبكرة قبل أسبوع فقط، وكانت تأمل في تكرار مكاسبها وتشكيل حكومة اقصى اليمين لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. ولو تحقق ذلك لكان له أن يقلب الخارطة السياسية في أوروبا، ويهدد وحدة الاتحاد الأوروبي، وحلف الأطلسي ويرسل رسالة تهديد إلى الملايين من أبناء المهاجرين في القارة العجوز وخارجها.
النتيجة شكلت صدمة للأحزاب القومية المتطرفة في أوروبا، بينما عبرت المؤسسة السياسية الإسرائيلية، التي كانت تأمل في انتصار اليمين المتطرف، عن امتعاضها. فقد سارع رئيس حزب إسرائيل بيتنا اليميني، أفيغدور ليبرمان، ليقول إن “انتصار حزب يساري متطرف في فرنسا يعني تصاعد الكراهية ضد إسرائيل، ودليلا على حدة معاداة السامية في أوروبا' مضيفا ان على يهود فرنسا للهجرة إلى إسرائيل.
وقال ليبرمان إن وزير الدفاع الفرنسي السابق اليساري جان لوك ميلينشون واتباعه من أعضاء حزبه يعبرون عن معاداة خالصة للسامية. وكانت رئيسة كتلة الحزب في الجمعية الوطنية الفرنسية قد قالت إن باريس ستعترف بدولة فلسطين خلال الأسبوعين المقبلين.
ويشير رد فعل ليبرمان إلى العلاقات المثيرة للجدل بين إسرائيل وأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا. وكان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وشركاؤه المتطرفون في الائتلاف يهتفون لاحزاب أقصى اليمين في أوروبا على الرغم من الإرث التاريخي المعادي للسامية الذي تمثله هذه الأحزاب.
ولسنوات كان نتنياهو يغازل زعماء شعبويين أوروبيين مثل سانتياغو أباسكال، زعيم حزب فوكس اليميني المتطرف في إسبانيا، والرئيس القومي الصربي ألكسندر فوتشيتش. وقد حافظ على صلاته بزعماء شعبويين آخرين ، بما في ذلك السياسي الهولندي المناهض بشدة للإسلام خيرت فيلدرز، والفرنسي اليميني المتطرف الشاب جوردان بارديلا خليفة ماري لوبين، ورئيس الوزراء القومي في المجر فيكتور أوربان.
إن الصعود السريع لأحزاب اليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية، كما دلت على ذلك نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، لابد أن يثير قلق قادة إسرائيل. لكن هذا لم يحدث. فقد تمكن نتنياهو من إيجاد أرضية مشتركة مع هذه الأحزاب، كاعتماده خطاب الرهاب الإسلامي أو الاسلاموفوبيا، والحاجة إلى حماية الثقافة اليهودية المسيحية المشتركة من الدخلاء الأجانب، أي المسلمين.
وقد صور نتنياهو الحرب الإسرائيلية على غزة باعتبارها حرباً تشنها اسرائيل نيابة عن الغرب، حيث صرح إن انتصار إسرائيل في غزة هو انتصار للغرب. وشدد على أن قدرة إسرائيل على إحباط التهديد الإيراني يضمن استقرار دول مثل مصر، التي سيؤدي انهيارها إلى توجه ملايين المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا، من وجهة نظره.
وردا على ذلك، خفضت العديد من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا خطابها المعادي للسامية، على الرغم من ارتفاع معدلات معاداة السامية في الغرب في السنوات الأخيرة. وتصاعدت المشاعر المعادية لإسرائيل في العديد من الدول الغربية نتيجة للحرب على غزة. ومع ذلك، نجحت إسرائيل في دعوة الحكومات الغربية، مثل ألمانيا والولايات المتحدة، إلى المساواة بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية وسن قوانين تجرم الاثنين.
كما أعرب السياسيون الأوروبيون من اقصى اليمين عن دعمهم لحرب إسرائيل ضد حماس، قائلين إن لها الحق في الدفاع عن النفس وأن 'الإرهابيين الإسلاميين'، وهو المصطلح الذي يستخدمه نتنياهو كثيرًا، يسعون إلى تدمير إسرائيل. وذهب البعض إلى حد رفض أي تحرك للاعتراف بالدولة الفلسطينية أو حتى دعم حل الدولتين، وساندوا بالكامل موقف أحزاب اليمين المتطرف في إسرائيل الرافض لاي حق للفلسطينيين في دولة.
وكان فيلدرز قد أصر على أن تلتزم حكومة يمين الوسط المشكلة حديثا في هولندا بنقل السفارة الهولندية إلى القدس في الوقت المناسب. وأثارت علاقات أوربان الوثيقة مع نتنياهو الدهشة، خاصة وأن أتباع حزب رئيس الوزراء المجري متهمين بمعاداة السامية، لكن بالنسبة للزعيم القومي المتطرف، فإن منع أسلمة أوروبا وحماية تراثها اليهودي المسيحي يمثلان أولوية. وكانت المجر قد صوتت ضد وقف إطلاق النار في غزة في الأمم المتحدة دعما لإسرائيل.
إن الاتجاه المؤيد لإسرائيل من جانب أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا ليس جديدا.فقد انتهى تقييم انتخابات الولاية التاسعة للبرلمان الأوروبي في عام 2019 أجراه الائتلاف الأوروبي من أجل إسرائيل – وهي مجموعة مؤثرة تأسست عام 2004 – الى أن الأحزاب العشرين التي كانت أصواتها الأكثر تأييدا لإسرائيل تنتمي جميعها إلى اليمين المتطرف.
أحد الأسباب الأخرى التي تدفع أحزاب اليمين المتطرف إلى دعم إسرائيل كدولة يهودية لا يتم الحديث عنها علنا. اذ لم يبدأ اضطهاد أوروبا لليهود مع صعود أدولف هتلر في ثلاثينيات القرن الماضي. فاضطهاد اليهود في أوروبا يمتد لعدة قرون خلت، مما أدى إلى ولادة الصهيونية كايدولوجية فاشية في القرن التاسع عشر والبحث عن وطن لليهود خارج القارة. بالنسبة لليمين الأوروبي المتطرف، فإن استمرار إسرائيل في البقاء ولو على حساب الفلسطينيين يرفع عن أوروبا ما يسمى بالعبء اليهودي.
ويرى الزعماء القوميون المتطرفون في كل من أوروبا وإسرائيل أن صعود معاداة السامية في الغرب من الممكن أن يستغل بشكل جيد من خلال تشجيع اليهود الأوروبيين على الهجرة إلى إسرائيل خوفاً من تكرار مذابح الماضي. سيتم وصف السياسات المؤيدة لفلسطين والمناهضة للاحتلال الإسرائيلي بأنها معادية للصهيونية، والتي يتم الخلط بينها وبين معاداة السامية. لكن ذلك لا يشكل عائقا ما دام من الممكن استغلال الظاهرة لتصدير المشكلة اليهودية من أوروبا إلى فلسطين. ومن المفارقة أن أقصى اليمين في كل من اسرائيل واوروبا يخرج مستفيدا من كل ذلك.
وبينما تواجه إسرائيل عزلة دولية بسبب فظائعها في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، فإنها تحظى بدعم زعماء شعبويين مثل دونالد ترامب، والأرجنتيني خافيير مايلي، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وآخرين. الأعداء المشتركون هنا هم الإسلام والمسلمين. لقد تمكن نتنياهو وعصابته من ركوب الموجة المعادية للإسلام التي تمثل الارضية المركزية لليمين المتطرف في أوروبا.
وقد أثار عدد قليل من السياسيين الإسرائيليين مخاوف بشأن التحالف الناشئ بين إسرائيل واليمين المتطرف الذي يحمل أفكارا تتعارض مع القيم الديمقراطية التي تدعيها إسرائيل.
إن حكومة إسرائيل الحالية هي عصابة يمينية، متطرفة، فاشية وعنصرية تتقاسم مع الأحزاب الأوروبية المتطرفة ذات القيم. وفي حين أن الفلسطينيين معرضون لخسارة الدعم الأوروبي إذا ما وصلت هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى السلطة، بما في ذلك إعادة انتخاب ترامب المحتملة في نوفمبر/تشرين الثاني، فإن الضرر الذي سيلحق بالعالم سيكون أكثر خطورة. ولكن في الأمد القريب سوف يجد الراديكاليون في إسرائيل حلفاء لهم في الجيل القادم من الزعماء الأوروبيين مع تحول المزيد من الناخبين نحو أقصى اليمين احتجاجاً على الوضع الراهن للمؤسسة السياسية المتحالفة مع رأس المال إضافة الى إخفاقات العالم الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة.
* صحفي ومعلق سياسي مقيم في عمان