تأتي الاجراءات الحكومية الاخيرة برفع أسعار المحروقات بالدرجة الاساس وبعض السلع الاخرى اضافة إلى التوجه لفرض فاتورة شهرية للمياه كمحاولة منها لمواجهة الضغط على المالية العامة التي تعاني من عجز متفاقم لأسباب كثيرة كانت تشكل بمجموعها فشلاً ذريعاً للسياسات الاقتصادية التي وضعها الفريق الاقتصادي منذ منتصف التسعينيات حيث كان أبرز هذه الاسباب التي نتجت عن جملة من الاجراءات التي اتخذها هذا الفريق والتي كان أهمها:
- الدخول في منظمة التجارة العالمية وما أعقبها من تحرير لتجارة السلع والخدمات التي أدت لمنافسة السلع المحلية مما أضعف من إنتاجنا الصناعي على وجه الخصوص سواء كان هذا الضعف متمثلاً بسوق المنافسة الاردني أم على صعيد المنافسة في الاسواق غير الاردنية, مضافاً إلى ذلك خروج كثير من الصناعات وتشريد عدد كبير من العمال مما زاد من نسبة الفقر والبطالة التي عانى منها الاقتصاد الاردني خلال السنوات الخمس عشرة الماضية.
- تعميق وتشجيع رؤوس الاموال للتوجه نحو البورصة والاسواق المالية بإعفاء أرباح هذا النشاط من الضرائب وتشجيع منح شركات الوساطة وشركات توظيف الاموال مما ساهم في الحد من الاستثمار في القطاعات المنتجة من زراعة أو صناعة اضافة إلى تغول هذا القطاع بعد أن استثمر في قاعدته الاساسية والمتمثلة بالقطاع البنكي وقطاع شركات التأمين مما ساهم في ظل غياب الرقابة الشاملة على نشاط هذا القطاع إلى ظهور فئة من السماسرة وأصحاب الشركات الوهمية التي ضيعت على الاردنيين الكثير من الملايين خاصة بعد أن انهارت أسعار الاسهم مما أدى إلى فقدان الاردنيين لمدخراتهم والكثير منهم ممتلكاتهم العقارية أو غيرها من أرصدة مالية عينية (ذهب) أو إلى تعاظم مديونيتهم, حيث كانت فئات كثيرة قد لجأت للاقتراض للحصول على جزء من كعكة البورصة!?
- الاعتداء على الوظيفة العامة من خلال تشجيع إنشاء المؤسسات المستقلة أو التوظيف عبر العقود حيث شكل هذا المنحى ضغطاً كبيراً على الموازنة العامة وحيث أن الفريق الاقتصادي شجع بسياساته المختلفة من اللجوء إلى هذه الخيارات بحجة مضاعفة الانتاجية والمساهمة في تقليص عجز الموازنة وإنشاء كوادر وطنية قادرة على المساهمة في خلق كوادر محلية ومصدرة رفداً للعمالة اضافة إلى رفع مساهمة القطاعات الحكومية من الناتج المحلي الاجمالي, حيث كانت السنوات الماضية تؤكد غير ذلك فميزانية الهيئات المستقلة وصلت إلى (2) مليار دينار وعبئها على الميزانية وصل إلى (300) مليون دينار من دون أن تضيف إلى سوق العمالة أي كوادر نوعية مختلفة وأن ترفع من مساهمة القطاع الحكومي في الناتج المحلي الاجمالي!?
- لجوء الحكومة إلى الخصخصة حيث باعت الحكومة الاردنية مساهمتها في الكثير من المشاريع التي كانت ترفد الموازنة بمبالغ كبيرة فالاتصالات والفوسفات والبوتاس وشركات أخرى ذات إنتاج نوعي كالكهرباء جميعها تخلت الحكومة عن منجم مالي لها خلال السنوات الماضية بعد أن برر الفريق الاقتصادي هذا التوجه بأن متطلبات العولمة وشروط منظمة التجارة العالمية وضعف أداء هذه القطاعات في الناتج المحلي وحاجة الخزينة إلى أموال لمواجهة ضغوطات عجز الموازنة أو النفقات المتصاعدة للموازنة اضافة إلى اعطاء فرصة للقطاع الخاص لمنافسة رأس المال الاجنبي الوارد إلى السوق الاردني جميعها مبررات ثبت فشلها, فالموازنة في تصاعد وواردات الخزينة كانت من هذه القطاعات في انخفاض!? وتدليلاً على ذلك وعلى سبيل المثال فان شركة الاتصالات وحدها كانت تدر على الخزينة أكثر من (200) مليون دينار في السنوات الخمس عشرة السابقة بينما دخل الخزينة الان من ضريبة الدخل من هذا القطاع في أحسن الاحوال ما لا يقل عن (60) مليون دينار فقط.
- تعديل ووضع التشريعات المختلفة ذات الاثر السلبي على اقتصادنا ومواطنينا والتي كان أبرزها تعديل قانون ضريبة الدخل اعتباراً من 1/1/1996 حيث تم تخفيض النسب الضريبية من (55%) إلى (30%) بعد أن كانت الخزينة تحصل على حصتها العادلة من أرباح الافراد والشركات بعد حد معين من الضريبة فعلى سبيل المثال كان مبلغ ال¯ (36) ألف دينار من الارباح الصافية لكل الفئات يخضع إلى (7420) دينارا ضريبة دخل وما زاد على (36) ألف دينار كان يخضع لضريبة دخل نسبتها (55%) للقطاع المالي و(45%) للأفراد و(40%) للصناعة وهكذا, لتصبح الان خاضعة جميعها لنسب تنازلت إلى (30%) للبنوك و(12%) للأفراد والتجار وغيرهم. يقابل ذلك وضع قانون ضريبة المبيعات لتعويض هذا التنازل في الواردات بسبب الاعفاءات الضريبية على الارباح الذي عُوض عنه بتحصيلات الواردات من الضريبة على دخل المواطنين حيث تأثر في ذلك مستهلكو الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة التي أدت معدلات الضريبة المتصاعدة من (,7 ,10 13 حتى استقرت إلى 16% وأخيراً إلى 18%) على البنزين في تآكل دخل هؤلاء المواطنين مما ساهم في ازدياد العرض من السلع في ظل عدم قدرة هؤلاء المستهلكين على شراء الكميات المعروضة وهذا أدى إلى إغلاق الكثير من المنشآت سواء كانت صناعية أم زراعية أم خدمية مما زاد من نسب البطالة والفقر الذي ضاعف من العنف المجتمعي والجرائم لمواجهة أعباء كان يمكن التخفيف منها عبر آلية مختلفة في فرض الضرائب!?
- تضاعفت مديونية الاردن منذ السنوات العشر الماضية لتصل إلى حدود مقفلة حيث بلغت حتى هذا التاريخ ما يقارب (11) مليار دينار وبنسبة تزيد على (60%) من الناتج المحلي الاجمالي وما يزيد على (220%) من واردات الموازنة العامة وهذا بحد ذاته تحد للموازنة العامة وتهديد لمستقبل اقتصادنا ومجتمعنا على حد سواء فرغم كل القراءات المتفائلة التي بشرنا بها الفريق الاقتصادي ورغم بيع ممتلكات الاردن عبر بوابة الخصخصة الذي بلغت عوائده (1) مليارا و(700) مليون الا أن عجز الموازنة والمزيد من الاقتراض ما زالا عنوان المرحلة وهاجساً مؤذياً للحكومات منذ منتصف التسعينيات وما زال!.
- لقد كان لاضطراب الميزان التجاري الاردني السمة البارزة خلال السنوات الماضية فرغم مضاعفة قيمة الصادرات الاردنية نظراً لارتفاع الاسعار بشكل عام!? الا أنها كانت دائماً متواضعة قياساً بالواردات, فالاستيراد كان في وتيرة متصاعدة وبربط ما تعرضنا إليه سابقاً من معطيات يدفع بالنتيجة إلى أن ضعف منافسة سلعنا وخدماتنا للسلع والخدمات الواردة للأسواق المستهدفة من قبل مصدرينا. لقد أثقل عجز الميزان التجاري سلة العملات المحلية وقدرة الاردن على مواجهة متطلبات الاستيراد الا أن السياسة كانت بجانب الاردن دائماً في تعمير هذه السلة من العملات, فودائع الاردنيين جزء من الودائع الاردنية, فالعملات الاجنبية التي وردت من الخارج سواء كان دافعها سياسيا أو أمنيا فجميعها ساهمت في توفير ما تحتاجه الاسواق من عملات.. لكن هذا الوضع ليس مستقراً ويعرض استقلالنا ووحدتنا وعلاقاتنا العربية إلى خطر دائم!.
- أن السياسة النقدية الاردنية ودور هيئات الرقابة الحكومية المتراجع على بسط رقابية على القطاع العام أو الخاص اضافة إلى جملة من التعديلات على التشريعات جميعها ضاعفت من معانات الناس وجعل القوى الصاعدة في المجتمع وخاصة قوى القطاع المالي (بنوك, تأمين, بورصة) من فرض سيطرتها وشروطها على مجريات التشريع فقانون التأمين وأنظمته كانت لصالح شركات التأمين, وقانون البنوك وأنظمته كانت لصالح البنوك, وقانون الاراضي وأنظمته كانت لصالح شركات الاسكان وقانون المالكين والمستأجرين كان لصالح المالكين ونظام رسوم المحاكم كان لصالح المقتدرين على التقاضي!?.
ان الاجراءات الاخيرة التي اتبعتها الحكومة لن يحل المشكلة وأن الحل الحقيقي ينبع في الاصلاح الضريبي من حيث تخفيض النسب العامة على السلع والخدمات إلى حدود متدنية لا تتجاوز (7%) اضافة إلى إعفاء الكثير من السلع والخدمات ذات التداول الكثيف والسريع من هذه الضريبة, يقابل ذلك العودة إلى النسب الضريبية العادلة التي كانت سارية ما قبل سنة 1996 على الارباح المكلفين سواء كانوا أفرادا أم شركات.
ما قبل سنة 1996 هذا الاصلاح هو الذي سينشط الاقتصاد عبر تفعيل القوة الشرائية للمستهلكين من ناحية وإعادة توزيع الثروة عبر حصول الخزينة على حصتها من هذه الارباح وإعادة توزيعها على شكل نفقات ومشاريع رأسمالية حكومية من ناحية أخرى, من دون إغفال للإصلاح السياسي الذي لن يكون الا بوعي شعبنا وقدرته على انتزاعه لحقوقه السياسية عبر انتزاعها من خلال العمل المنظم الذي تشكل الاحزاب حلقته الانجع والاقوى في مواجهة قوى رأس المال التي ومنذ فترة ما زالت تضع يدها على القرار التشريعي والقرار التنفيذي بعد أن فقدت الحكومة دورها في رعاية مختلف القوى حيث العقد الاجتماعي الذي نقضته والذي يفرض عليها هذا الواجب أولاً ودائما.