صحيفة العرّاب

خطاب العرش السامي: بوصلة الإرادة الأردنية بين التحديث والاختبار الاقتصادي

 خطاب العرش السامي: بوصلة الإرادة الأردنية بين التحديث والاختبار الاقتصادي

 
 
النائب الكابتن زهير محمد الخشمان
 
 
في لحظة تتقاطع فيها الأزمات الدولية مع تحديات الداخل، ألقى جلالة الملك عبدالله الثاني خطاب العرش السامي، معلنًا افتتاح الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة العشرين.
خطاب حمل روحًا استثنائية بين رسائل القائد وقلق المواطن، بين التوجيه السياسي والدعوة إلى الفعل، بين ما أُنجز وما ينتظر التنفيذ. كان الخطاب هذه المرة أقرب إلى “دفتر تكليف وطني” منه إلى نص بروتوكولي تقليدي، إذ تضمن إشارات دقيقة إلى ملفات محددة ومسارات إصلاحية مترابطة في السياسة والاقتصاد والإدارة والخدمات.
 
 
جاءت العبارات الأولى من الخطاب مشحونة بمعاني الانتماء، وكأنها تعيد تعريف العلاقة بين الملك وشعبه على أساس الثقة المتبادلة والمسؤولية المشتركة.
فعبارة “نعم يقلق الملك، لكنه لا يخاف إلا الله، ولا يهاب شيئًا وفي ظهره أردني” ليست مجرد تعبير وجداني، بل هي ترسيخ لمفهوم الشراكة الوجدانية بين القيادة والشعب، وإعادة تأكيد أن قوة الدولة لا تُقاس فقط بمؤشراتها الاقتصادية، بل بروح شعبها وإيمانهم بوطنهم.
هذه الرسالة تعيد للمشهد السياسي الأردني بعدًا إنسانيًا مفقودًا في زمن الحسابات الباردة؛ فالملك يتحدث كأبٍ قَلِق، لا كحاكمٍ مطمئن، لكنه في الوقت ذاته مطمئن لأن “الأردني في ظهره”، وهو أعمق تعبير سياسي عن الشرعية الشعبية المستندة إلى الثقة والولاء الوطني.
 
 
حين قال جلالته: “لا نملك رفاهية الوقت ولا مجال للتراخي”، كانت العبارة بمثابة جرس إنذار للحكومة ومؤسسات الدولة. فالرؤية الملكية للتحديث ليست مشروعًا مؤجلاً، بل خطة ملزمة زمنياً.
خلال السنوات الأخيرة، وضعت الدولة الأردنية “رؤية التحديث الاقتصادي 2033” كخريطة طريق نحو اقتصاد أكثر إنتاجًا وعدالةً وتنافسية، لكن الإنجاز الفعلي لا يزال متذبذبًا.
الملك هنا يربط التنفيذ بالزمن، ويربط الزمن بالمسؤولية، أي أن كل تأخير في الإصلاح الإداري أو تنفيذ المشاريع الكبرى هو تقصير في حق المواطن والوطن.
بكلمات أخرى: الخطاب لا يمنح ترف التنظير، بل يُطالب بالنتائج.
 
 
المحور الاقتصادي في خطاب العرش لم يكن عابرًا. فالجملة المفتاحية “علينا الاستمرار في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي لمواصلة تحقيق النمو وإقامة المشاريع الكبرى وجذب الاستثمارات وتوفير فرص العمل ورفع مستوى المعيشة” تختصر ملامح المرحلة القادمة.
الملك لم يكتفِ بتكرار المفاهيم العامة حول الإصلاح، بل حدّد محركات النمو: الاستثمار والمشاريع الكبرى وفرص العمل والمعيشة.
وهذا يعني أن الرقابة النيابية القادمة يجب أن تتحول من مراقبة شكلية إلى رقابة ناتج ومؤشر؛ فالسؤال لم يعد “هل أطلقت الحكومة مشاريع؟” بل “كم فرصة عمل خلقت هذه المشاريع؟ وكم استثمارًا فعليًا دخل البلد؟”.
فالحديث عن تحديث اقتصادي دون معالجة بيئة الاستثمار والتشريعات وبيروقراطية الترخيص، يبقى خطابًا جميلًا بلا أدوات.
 
 
“علينا الاستمرار في تطوير القطاع العام ليلمس المواطن أثر الارتقاء بالخدمات”.
بهذه العبارة حوّل جلالة الملك التحديث الإداري من مصطلح تقني إلى قضية عدالة اجتماعية. فالمواطن لا يريد أن يسمع عن لجان واستراتيجيات، بل يريد أن يشعر بفرق في يومه: سرعة في المعاملة، نزاهة في الخدمة، شفافية في القرار.
القطاع العام هو وجه الدولة الحقيقي أمام المواطن، وإذا بقيت مؤسساته مثقلة بالبيروقراطية والجمود، فلن تنجح أي رؤية مهما كانت طموحة.
من هنا، يصبح التحديث الإداري بمثابة “المحرك الصامت” لكل إصلاح آخر.
 
 
في فقرة محورية، قال الملك: “علينا أن ننهض بنظامنا التعليمي... وأن نواصل تطوير نظامنا الصحي، وتحديث قطاع النقل”.
هذه الملفات الثلاثة ليست تفصيلًا خِدميًا، بل ركيزة لاستقرار الطبقة الوسطى، وضمان الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية.
فالتعليم هو الاستثمار الأذكى في المستقبل، والصحة هي الأمن الاجتماعي الحقيقي، والنقل هو معيار تطور المدن والمناطق.
المطلوب اليوم من الحكومة ليس تحسين جزئي في هذه القطاعات، بل نقلة نوعية مبنية على التكنولوجيا والحوكمة الحديثة والشراكة مع القطاع الخاص.
 
 
منذ عقود، والأردن يوازن بين صراعات الإقليم واحتياجاته الداخلية. ومع ذلك، حافظ الملك عبدالله الثاني على ثبات الموقف تجاه القضية الفلسطينية، مجددًا في الخطاب:
“نقف أمام الكارثة التي يعيشها أهلنا في غزة... وسنبقى إلى جانبكم بكل إمكانياتنا، وقفة الأخ مع أخيه.”
هذا الخطاب لا يُقاس فقط بمضمونه الإنساني، بل أيضًا بجرأته في ظل الانقسام الدولي. الأردن هنا يُقدم نفسه كصوت عقلاني وشجاع في آنٍ واحد، يرفض الانتهاكات في الضفة الغربية، ويتمسك بالوصاية الهاشمية على القدس كمبدأ لا يخضع للمساومة.
إنها رسالة مزدوجة: للأردنيين بأن دورهم التاريخي مستمر، وللعالم بأن استقرار المنطقة يمر عبر العدالة في فلسطين.
 
 
من بين جميع المؤسسات، وُضع مجلس الأمة في موقع التكليف المباشر:
“وأمام هذا المجلس مسؤولية متابعة ما تم إنجازه في مسار التحديث السياسي وتعزيز العمل الحزبي النيابي المكرس لخدمة الوطن.”
هذا التوجيه يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الممارسة البرلمانية، قائمة على “البرامج لا الأشخاص”.
فالمطلوب من النائب اليوم أن يتحول من متحدث باسم منطقته إلى مراقب ومشرّع باسم الدولة، وأن يقيس أداء الحكومة لا بعدد البيانات، بل بحجم التغيير الذي يلمسه الناس.
البرلمان القادم أمام اختبار الثقة الشعبي، والكتل الحزبية مطالبة بإثبات قدرتها على التحول من الشعارات إلى الإنجاز.
 
 
حين قال الملك: “هنا رجال مصنع الحسين... فهذه الأرض المباركة ولادة الأحرار”، أعاد التأكيد على أن جيشنا العربي ليس مجرد مؤسسة دفاع، بل ركيزة هوية وطنية.
الجيش هو الضمانة الأولى للاستقرار، والوصاية الهاشمية هي الضمانة التاريخية للشرعية، وهما معًا يشكلان “الثابت الأردني” الذي لا يقبل المساومة، مهما تغيّر العالم من حولنا.
 
 
الخطاب الملكي أعاد ترتيب أولويات الدولة، لكنه في الوقت ذاته وضع الحكومة تحت مجهر المساءلة.
فالمشهد الاقتصادي لا يزال يواجه تحديات معقدة:
 
المديونية العامة تتجاوز 115% من الناتج المحلي الإجمالي.
 
معدل البطالة يراوح حول 21%، ويفوق 40% بين الشباب.
 
بيئة الاستثمار تعاني من بطء الإجراءات، وغياب التحفيز الحقيقي.
 
فجوة الثقة بين المواطن والحكومة ما زالت ملموسة.
 
 
لكنّ الأمل هنا ليس غائبًا. فالأردن يمتلك كل مقومات النهوض: موقع استراتيجي، كفاءات بشرية متعلمة، واستقرار سياسي نادر في الإقليم.
التحدي الحقيقي هو في “التحول من الرؤية إلى التنفيذ”.
الملك قالها بوضوح: لا وقت للتراخي.
والمطلوب اليوم أن تتحول الرؤية إلى خطة تشغيلية تقاس بالأرقام، لا بالتصريحات.
 
 
من الناحية اللغوية والبلاغية، تميز خطاب العرش هذا العام بلغة قصيرة مكثفة خالية من الزخرفة، لكنها مشحونة بالعاطفة.
الجمل المباشرة مثل: “يتساءل بعضكم كيف يشعر الملك؟” أو “نعم، يقلق الملك” أعادت الصلة الوجدانية بين الملك والمواطن، وجعلت الخطاب قابلاً للتداول الشعبي، لا حكرًا على النخب السياسية.
في المقابل، أُدرجت القضايا الاقتصادية ضمن سياق وطني جامع، فكانت اللغة الاقتصادية غير تقنية، لكنها واضحة الاتجاهات، تربط بين النمو وفرص العمل، وبين الخدمات والكرامة.
هذا التوازن بين العاطفة والعقل هو ما جعل الخطاب جذابًا للرأي العام، وسهل الترجمة الإعلامية له كوثيقة سياسية واقتصادية شاملة.
 
 
خطاب العرش السامي لم يكن فقط افتتاحًا لدورة برلمانية جديدة، بل إعلانًا عن بداية مرحلة مختلفة من الإصلاح الوطني.
فالملك رسم الاتجاه، وحدد الإيقاع، وألقى بالكرة في ملعب السلطتين التنفيذية والتشريعية، ومعهما القطاع الخاص والمجتمع المدني.
إنه خطاب الإرادة قبل الخطة، وخطاب العمل قبل الكلام.
ولأن الأردن “وُلد في قلب الأزمات”، كما قال جلالته، فإنه قادر دائمًا على تجاوزها، شرط أن يتحول هذا الخطاب إلى برنامج وطني منضبط بالزمن والنتائج.
 
الرهان اليوم ليس على الخطط الورقية، بل على القدرة التنفيذية، وعلى الشراكة بين الدولة والمواطن، فهما معًا عنوان المرحلة: دولة تعمل... وشعب يثق.