لا يزال حجم الكارثة الإنسانية في غزة لم يتكشّف بعد بصورته الحقيقية المؤلمة، ليس فقط على صعيد عدد الشهداء والجرحى والمهجّرين والهدم الذي طاول البنية التحتية والمستشفيات وكل المباني في القطاع المنكوب إنسانياً، بل حتى على صعيد الجراح والتداعيات النفسية الكبيرة الخطيرة على مستوى «الإنسان الغزي»، الذي دفع الكلفة الكبرى في حرب الإبادة الوحشية..
ثمّة كمّ كبير وهائل من التداعيات المرئية وغير المرئية التي ستأخذ تداعياتها وآثارها بالظهور مع مرور الوقت، ولو توقفنا فقط عند سؤال المنظور القيمي- الإنساني، في موضوع تبادل الجثامين بين الطرفين، لانكشف لنا حجم الفجوة المرعبة بين النظر إلى الإنسان الغزي بوصفه إنساناً ومدى اهتمام المجتمع الدولي بذلك مقارنة بجثامين الإسرائيليين؛ فيتم التوسط الدولي والإقليمي لدخول آليات ثقيلة فقط للبحث عن جثث الأسرى الإسرائيليين والتأكد من إعادتها، بينما لا يزال مئات الآلاف من الفلسطينيين الأحياء الذين يعانون الأمرّّين بسبب نقص الأدوية والأطباء والظروف اللإنسانية القهرية التي يعيشون فيها، وقد أظهرت إحصائية أمس أن غزة قفزت لتكون الرقم الأول عالمياً في عدد الأطفال الذين فقدوا أطرافهم..
في الوقت الذي يتبجح فيه نتنياهو بالتهديد باستئناف القتل بسبب التأخر في استلام بعض الجثث، فإنّ جثث المئات من الغزّيين الذين أرسلتهم إسرائيل، لا يزال أغلبها بدون القدرة على التعرّف على هويته، ولا يستطيع أهله معرفته، لنقص المعدات والأجهزة، فضلاً عن التحلل الكبير في هذه الجثث، مع بروز إشارات واضحة وكبيرة على جرائم ضد الإنسانية ارتكبت بحق هؤلاء الأسرى من قبل إسرائيل، قبل استشهادهم، من تكسير للأطراف ونهش من قبل حيوانات مفترسة، فضلاً عن الفضيحة التي ارتبطت بما نُسب للمدعية العامة الإسرائيلية المستقيلة، تومر يروشالمي، من تسريب فيدو من معتقل سديه تيمان يظهر حراساً إسرائيليين يعتدون جنسياً على معتقل فلسطيني، وكما يشير الموقع الإخباري الإسرائيلي +972 فإنّ النقاش في إسرائيل لم يعد حول الجريمة القبيحة الفجّة، بل حول التسريب والغضب من فضح هذه الجريمة، مما أدى إلى اعتقال المدعية العامة نفسها بتهمة تسريب الفيديو.
الانهيار الأخلاقي ليس فقط على صعيد الكيان الإسرائيلي، بل على صعيد عالمي وإنساني عام، فقد كشفت الحرب وما بعدها الاختلاف الجوهري في التعامل ما بين الفلسطيني بوصفه إنساناً والإسرائيلي، على صعيد القتل والذبح والتنكيل والإبادة وعلى صعيد الأسرى وحتى في التعامل مع الأموات هنالك فروق كبيرة!
كشف استطلاع أجراه معهد التقدم الاجتماعي والاقتصادي الفلسطيني على قطاع غزة، وفي مناطق متعددة منه، (في شهر أكتوبر المنصرم، وبعد إعلان الهدنة) عن نتائج تستحق التوقف والتحليل؛ في البداية من الواضح أنّ هنالك ارتفاعاً كبيراً في مستوى الأمل لدى الغزيين باستمرار وقف إطلاق النار وتوقف الحرب، وفي نهاية الاحتلال الإسرائيلي، كما أظهر أنّ الغزيين ينسبون الفضل في وقف الإبادة لكل من قطر ومصر وأميركا وتركيا، ويخصون الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس رجب طيب أردوغان.
لكن النتائج الفارقة بصورة لافتة في الاستطلاع تتمثل في أنّ ما يقارب نصف المستجيبين 49% يؤيدون جسماً دولياً يحكم غزة، ومن يعارض هي فقط نسبة لا تصل إلى 20% (منها نسبة 13% يعارضو بدرجة معينة)، بينما من يقفون موقفاً محايداً هي نسبة 34%.
أكثر من ذلك، فإنّه إذا جرت انتخابات محتملة في غزة، فإنّ 32.8% يفضلون سياسيين مستقلين، بينما 27% لن يصوتوا، أما حركة حماس فمن سيصوت لها فقط نسبة 2.1%، وحركة فتح نسبة 18.9%، وعند سؤال المستجيبين من تريد أن يحكم غزة أجاب 21.5% المستقلون، بينما ما يقارب 18% فتح، و13.9% قوة دولية، و13.7% قوة عربية، وفقط ما يقارب 3% حركة حماس.. أما عن توقعاتهم الفعلية لمن سيحكم غزة بعد الحرب فإنّ القوة الدولية هي السيناريو الأرجح بالنسبة لما يقارب 27%، أو قوة عربية لما يقارب 13%.
يؤشر هذا الاستطلاع إلى تأثير حجم الكارثة الإنسانية على المشاعر والأفكار والتوجهات لدى «الإنسان الغزي» ما بعد الحرب؛ والانهيار بحجم الثقة بالقوتين الفلسطينيتين الرئيسيتين (فتح وحماس)، بل وعدم الممانعة بالانتقال إلى إطار دولي وتفضيل فلسطينيين مستقلين على الصعيد المحلي على القوى السياسية..