صحيفة العرّاب

حتى تنجح سوريا

 يكاد يمر عام على نجاح الثورة السورية في رحيل النظام السوري السابق غير المأسوف عليه، بعد أن احتكر السلطة لصالح فصيل دون غيره، وبعد أن نكل بالشعب السوري وقتل مئات الآلاف منه كما شرد الملايين.

ومما لا شك فيه أن وضع الحريات العامة في سوريا اليوم تحسن بما لا يقاس عن السابق، ولم يعد السوريون، حتى الذين ينتقدون النظام الجديد من وسط دمشق، خائفين على أمنهم الشخصي. كما أن الوضع الخدماتي من كهرباء ومواد غذائية وغيره آخذ في التحسن وإن ببطء مفهوم.

لكن المرحلة القادمة في حاجة لما هو أكثر من ذلك حتى تصل سوريا لوضع مستقر يسمح بإعادة إعمار البلد ويطمئن كافة السوريين والسوريات أن صوتهم مسموع، وأنهم شركاء في صناعة القرار.

يقول الكثيرون إن الحديث عن الديمقراطية في سوريا سابق لأوانه، وإن الوضع الحالي لا يسمح بمثل هذه الديمقراطية قبل أن يتحقق قدر من الاستقرار وخاصة الاقتصادي والخدمي منه. ويضيف البعض أن الرئيس الشرع لديه مشكلة حقيقية في التعامل مع قاعدة ساعدته في الوصول الى الحكم، هي جهادية عقائدية تضع عقيدتها فوق مصلحة سوريا، بل لا تؤمن أصلا بسوريا وطنا. بالتالي، سيبقى هذا الخلاف حول توقيت فتح النظام السياسي وإرساء نظام تعددي تشاركي منفتح، قائما الى حين. لكن المؤمل أن لا يكون هذا النقاش مدعاة للاختلاف، إن المطلوب في النهاية خارطة طريق تؤدي إلى مثل هذا النظام التعددي. فلا أسهل من بديل آخر يتم فيه الانزلاق لحكم سلطوي يبتعد عن الحوكمة الرشيدة وينتشر فيه الفساد وينتفع منه الأقرباء والأصدقاء على حساب باقي الشعب. فالتجربة العربية ليست واعدة بعد أن أتت ثورات عدة على الحكم بشرت فيها بالديمقراطية ولم تحقق منها شيئا بعد عقود من استلامها السلطة، إلى أن انتهى بها الحال لأن تصبح أسوأ من الأنظمة التي سبقتها.

إذن، ومع إيماني أن موضوع الديمقراطية لا يمكن فصله عن الحوكمة الرشيدة أو عن خارطة طريق تؤدي إليه، فإن شاء البعض أن يضع النقاش حول الديمقراطية جانبا الآن، فلا أقل من أن نبحث في العوامل التي من شأنها المساعدة نحو تقدم سوريا نحو الحوكمة الرشيدة والتعددية والتشاركية. ومن أهم هذه العوامل:

إعادة الإعمار في سوريا، ستحتاج هذه العملية إلى مئات المليارات من الدولارات فمن أين ستأتي هذه الأموال؟ الإدارة الأمريكية تعلن صباحا مساء أن الأموال لن تأتي منها، والدول الخليجية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية مهتمة بشأنها الداخلي وليس لديها مثل هذه الأموال لتنفقها على سوريا، وكذلك الاتحاد الأوروبي والمنظمات المالية الدولية. واقع الحال إن إعادة الإعمار ستكون مسؤولية القطاع الخاص السوري بالدرجة الأولى. هذا القطاع متردد اليوم كون لديه ملاحظات عديدة على الإجراءات الاقتصادية للنظام الجديد.

فالصناديق السيادية التي يتم انشاؤها تفتقر للحد الأدنى من الشفافية، فلا يعرف كيف تدار ولا يوجد نظام رقابي عليها. ولم يعد سرا أن تجار دمشق وحلب غير راضيين عما يجري بل إن بعض المصانع السورية قد اغلقت أبوابها اليوم.

تحقيق الشفافية في إعادة بناء سوريا تحتاج لإرادة سياسية واضحة لطمأنة القطاع الخاص أن استثماراته ستكون بمأمن. يحتاج ذلك لنظام قضائي مستقل كما لقوانين مالية تضمن الشفافية كما تحقق الرقابة والمساءلة وهو ما ليس متوفرا اليوم.

يحتاج هذا أيضا لوحدة وطنية سورية تتمثل في الاتفاق على شكل الحكم. ليس سرا أيضا أن معظم أفراد الشعب السوري، وبغض النظر عن طوائفهم، لا يرغبون بدولة إسلامية عقائدية جهادية، بل بدولة مدنية ذات قوانين وضعية، وأن موضوع إعادة الإعمار وضخ استثمارات كبيرة من القطاع الخاص داخل وخارج سوريا مرتبط ارتباطا وثيقا بشكل الحكم، فإن كان مقبولا من كافة مكونات الشعب السوري كان له فرصة في النجاح، أما إن كان شكل الحكم ونظام حياة الشعب السوري مفروضا من جهة عقائدية واحدة، فلن تتم مثل هذه الاستثمارات الضرورية.

هذه عوامل لا بد من البت بها بعيدا عن جدلية الديمقراطية السياسية وتوقيت الانفتاح السياسي والحياة النيابية الحزبية. دون انتفاء حاجة أي مجتمع لمثل هذه الحياة النيابية الحزبية الحقة، فأقل الإيمان ريثما يتحقق ذلك أن يتم الانتباه للعوامل المذكورة أعلاه لتعظيم فرص الوصول لمجتمع تعددي تشاركي ينتج استقرارا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

القدس العربي