صحيفة العرّاب

قصة تائه لم تجد الدوائر الرسمية شيئاً يثبت انه موجود على وجه الارض

مُنحني الظهر, شارد, رغم التفاتاته الكثيرة هنا وهناك, يطوف سمير في تمتماته المفهومة حينا, وغير المفهومة أحيانا كثيرة, شوارع حي شعبي في الزرقاء.

"سمير" غير مؤذ, ولكنه سريع الغضب, وخاصة عندما يسمع كلمة "هوية". يقول "سعيد" أحد شبان الحي الذي يعرفه منذ أكثر في ثلاثين عاما, قبل أن يلتحق سمير بصنعة "الطراشة" ك¯ "صبي" ثم معلم يتعهد الورشات.
"إن أردت إغضابه "ككبسة زر" أَسْمِعه كلمة "هوية", ثم انظر كيف سيتحول "الهدوء الحذر" لديه إلى شتم وغضب وتلويح باليدين وقفز.. ستتمنى حينها أنك لو مت قبل أن تتلفظ بهذه الكلمة.."هوية" يقول سعيد.
"سمير.ك" - وقد اخترنا له هذا الاسم المستعار لحساسية حالته الاجتماعية - من مواليد غزة "دير البلح" حضر أهله الى الاردن عام 1967 وكان عمره حينذاك سنتين. في بادئ الامر سكنت الاسرة مخيم الحسين أشهرا قبل أن تنتقل إلى أحد أكثر أحياء محافظة الزرقاء ازدحاما.
انتهى هذا الشاب اليوم إلى كونه لعبة أطفال الحي. أطفال يمتّعهم أن يروا فيه "لعبة", وهو كذلك لعبة المراهقين إذا ما أرادوا حرق أوقاتهم قليلا.
يمرّ سمير أمام مجموعة من مراهقي الحي, وفجأة يصرخ أحدهم في وجهه: "هوية", فيبدأ الرجل صاحب ال¯ 43 عاما والذي يبدو في كامل قواه العقلية بالصراخ المتوتر.
"هوية" سمير تنتمي إلى أسرة فقيرة من أصول يافاوية غزاوية, أي أن والده هاجر خلال النكبة إلى غزة, ثم عاد ونزح الى المملكة. فاعتبر بذلك غزاويا بحكم القانون. ولكنّ هذا الترحال كلّف "هوية" سمير الكثير.
في الحقيقة لا يعتبر "سمير" كائنا بشريا, إن كان المتطلب الاجباري لوجود الكائنات البشرية المعاصرة أن تحمل وثائق رسمية. فسمير لا يحمل سوى همّه. فحتى جواز سفر والده المؤقت لا يرد فيه اسم سمير.. يقول "سعيد".
يوما بعد يوم تحول سمير إلى أهم اكسسوارات الحارات الشعبية, تلك التي يطوف فيها "مجنونا" بالضرورة.. "فلكل حي مجنونه". يقول احمد شحادة أحد الشباب الجامعيين معلقا على حالة سمير.
لأسرة أبو سمير عدد من الأبناء والبنات, كانوا يسكنون في غرفتين متواضعتين, وحمام, وشيء اسمه مطبخ, قبل أن تتزوج البنات, ليفسحن المكان للابناء الذين يعملون في مهن لا تكاد تقيهم حر فقر, ولا برد حاجة.
مأساة سمير الذي خرج من المدرسة قبل أن يكمل صفه الاول, بدأت على غفلة من جهل الاسرة التي لم يخرج ربّها أي وثيقة شخصية لأبنه البكر سمير منذ ولادته وحتى تخطى عمره المراهقة فالشباب. هو الخطأ الذي سيكلفه وابنه الكثير.
"كان طبيعيا" يقول والده وهو يمسح جبينه. ويضيف, "كان شخصا طبيعيا مائة في المئة, وكان يعمل معي في أعمال البناء المختلفة.
في أحد الأيام يلاحظ سمير أنه بلا وثائق كما اشقائه واقرانه فيقرر أن يخرج "هوية" أحوال شخصية له, ويبدأ بالتردد على المؤسسات الرسمية ذات الصلة مع والده, ولكن من دون أن يصل الى نتيجة. فالرجل يريد ان يكون معترفا به ولكنه لا يفلح. والسبب وفق الجميع "والده".
لن يجيبك أبو سمير العاطل عن العمل منذ خمس سنوات, ويعتمد اليوم على الاعانات ومساعدة بسيطة من ابنائه الفقراء عن سؤال: لماذا لم تخرج لابنك البكر هوية شخصية? ولكنه يكتفي بالنظر إليك بعينين مذعورتين ثم يلوذ بالصمت. أما إذا كانت كلمة "لا أعرف" إجابة, فهي كذلك, ولكنها الوحيدة التي يمكن أن تسمعها من أبي سمير.
تحاول قطع صمت الوالد بالسؤال: هل سبق وعرضته على طبيب نفسي? هل حاولت? هل يمكن أن تعيد الكرة مجددا لتستخرج له "هوية", لماذا لا تلجأ لأشخاص يمكن ان يساعدوك في هذه المهمة?
يقول استاذ علم الاجتماع الدكتور حسين الخزاعي "الفقر لا يعني فقط الجوع, فمع مرور الوقت وخضوع الانسان له سيعني أيضا الجهل"
ويعرّف الخزاعي العنف المجتمعي بالقول إساءة نفسية أو اجتماعية او سلوكية او جنسية يتعرض لها فرد من قبل جماعة من الناس ينتمي إليهم".
لا شيء يغضب سمير أكثر من أن يسمع كلمة "هوية". لقد تحول هاجس امتلاكه لوثيقة تخصه الى مرض أعياه, بعد ان أعجزته قصته. فالدوائر الرسمية لم تجد في ملفاته شيئا يثبت انه موجود على وجه الارض. "ولا حتى شهادة مدرسية" تقول أم سمير.
بالنسبة للاسرة - وعلى حد تعبير الام - فان الهم الوحيد لها اليوم ان لا يخرج سمير الى الشارع, لانه سيتعرض للمضايقات من أطفال الحي, والأحياء المجاورة, وسيعود غضبانا, يصرخ في كل اتجاه.
تقول: أحاول منعه من الخروج لكنه يغافلني ويخرج. فماذا افعل?
أما أبو محمد بائع الخضار المجاور لمنزل ابو سمير فيقول: عندما يسير سمير وحيدا في الشارع لن يكتشف احد ان به شيئا ولكن عندما يلحق به أبناء الحي ويتلفظون بكلمة هوية لاغاظته يكون لهم ذلك فتثور ثائرته.
ويحاول كبار السن منع الاولاد من ممارستهم العنف ضد سمير, ولكن كأن الامر بحاجة الى وضع مرافق لحماية سمير, وهو امر غير ممكن.
ويصف صاحب محل مواد بناء في المنطقة سمير بانه شخص لديه فصام في الشخصية ففي بعض الاحيان يبدو شخصا عاديا وفي احيان اخرى يكون غريبا وخاصة عند سماعه لكلمة "هوية".
الأم حزينة على مآل ولدها, ولكنها تعترف بشيء من الخجل أنها في كثير من الاحيان تشعر بالضجر منه, وتغضب, وتثور في وجهه, ولكنها تندم بعد ذلك, كما انه يثور, هو الاخر, في وجهها.
تدرك للوهلة الاولى أن أمرا ما يلم بالرجل المنحني الظهر ذا الملامح المتعبة, المدخن والملتزم بالصلاة, ولكنك لا تعرف بالضبط ما الذي يتعبه. تجالسه يحدثك احاديث الرجال. تخرج منه بعض الكلمات التي تشي بحقيقته. ولكن هذا لا يعني تماما انك تحدث مختلا.
تسأله عن ايامه وكيف يقضي عمره فيجيبك باقتضاب حيي انه يمضي وقته في التجوال أو مشاهدة التلفاز, فهو بلا اصدقاء. وعندما تسأله عن طبيعة البرامج التي يشاهدها يجيب برامج الاطفال وتحديدا فضائية "طيور الجنة".
تحدثنا معه فاتحناه بما خشينا ان يغضبه. لماذا تصاب بالتوتر عندما يقال لك "هوية" فيجيب: أحب ان يكون لي هوية وجواز سفر كبقية الناس.
هنا يسهب في الحكاية: عندما ذهبت لمراجعة الجهات المعنية طلبوا مني شهادات المدرسة, ولكن حتى هذه لا يملكها فهو لم يكمل حتى صفه الاول.
وما يزيد في حنقه ان اشقائه يحملون جوازات سفر مؤقتة "لوجود شهادات مدرسية معهم". الكل في البيت يملكون جواز سفر وهوية إلا أنا. وما يزيد في بلة طينه ان اسمه غير موجود حتى في جواز سفر والده المؤقت. هو ببساطة ليس موجودا.
ما يتعرض له سمير من عنف نفسي من قبل حارته, لم يتوقف حتى اليوم. وهو أكثر من ذلك وكما يعترف والداه يتعرض ايضا للعنف الجسدي من قبل جميع أفراد أسرته.
العرب اليوم