أمضى علاء 23 عاماً موهوماً بيتم الأم بعد ولادته بثلاثة أيام رغم بقائها على قيد الحياة, فلم يكن يعرف أن والده يعدّه لمواجهة أيام لا تؤثثها إلا الوحدة والخوف, وحيداً تتقاذفه أمواج الحياة من دون رحمة, وأن أنياب البرد وقسوة التعامل ستعملان نواجذهما في جسده الغض.
وبحسب قصة علاء التي سردها ل"العرب اليوم" بدأ علاء معاناته معتمداً على أرشيفه المثقل بألوان الألم, مطلقاً العنان لخيالاته المنغمسة في طفولة تساقطت أوراقها على أزقة الشوارع, فما حملت له إلا البصق والشتم من زوجة أبيه; لتكوّنان هويته المنتقاة بقسوة فيما بعد.
يجلس علاء على أحد أرصفة مجمع رغدان يبيع ما تيسر من ملابس ; في الوقت الذي يجلس فيه أبناء جيله على مقاعد الدراسة, بعد أن أخرجه والده مبكراً من المدرسة ليزج به في أحد المجمعات ممتشقاً بحبلٍ يحفظ له توازن تلك الأسمال البالية التي احتلت مكان شنطة الكتب على ظهره, تلك الشنطة التي يحملها الآخرون من أبناء جيله لمجرد أنهم يعلمون أن أمهاتهم في مكان ما قريب.
سرده لتفاصيل طفولته المغتصبة بألم لا يساوره شك; كشف عن ألسنة الفقر التي كوت جسده, يقول الشاب :حين كان عمري ثلاثة أيام حرمني والدي من حضن أمي, ووضعني في مبرّة أم الحسين للأيتام لأربع سنوات.
يتحدث والخوف يلف شبابه:بعد ذلك, أخرجني أخي من المبرة وبقيت في بيته لمدة عامين, حتى خطفني والدي ووضعني عند إحدى العائلات لتعمل على سقايتي فنون الامتهان والتعالي والتشرد بدلاً من إيوائي.
التفاتته الدائمة إلى من حوله, فضلاً عن تأتأة مترددة إثر سني طفولته المعنفة جرّاء الفقر والعوز والحاجة وأرشيف طويل من الإيذاء, كانتا تحولان دون تذكره لكل ما حصل, إلا إنه رغم هذا كشف عن مدى العنف الجسدي واللفظي اللذين كانا غذاءه اليومي من زوجة أبيه.
بعد قرابة الشهرين, يقول الشاب:أخذني والدي إلى بيته; لأكون لزوجته الخادم الصغير, الذي يعمل ليل نهار على غسيل ملابس أبنائها - أخوتي لو كان هذا الكون منصفا- وتنظيف الحمّام.
ينسحب إلى حافة الكرسي ويداه ترتعشان, ويهرش بطرف سبابته جبهته المتعرقة:... كانت زوجة أبي تعمد إلى وضعي في إحدى زوايا البيت, وتسمح لابنها بالتبول علي, وتدعس على رأسي على مرأى من والدي, الذي يبادر إلى إلقائي خارج البيت; لأمضي ليلة بما فيها من أمطار وبرد خارج أسوار الرحمة, بعد أن يكون أوسعني ضرباً, لأني أنا وحدي من عليه أن يوغل في البؤس لأعيش تجربة أن يبول علي أخي.
تشدك كلماته حين يتذكر أنه ذات مساء, وبعد أن حضرت جدته للعيش معهم, أعطته حبة موز. وعندما همّ يأخذها, كانت يد والده هي الطولى, فسبقته إليها, مؤكدا لجدته أنه أكل قبل قليل, علماً إنني لم أتذوق طعمها منذ مدة ولم يكتفِ بهذا بل قام على إثرها بربطه بالجنزير, ووضعه في المستودع.
قرر علاء أن يرحل بعد أن أكمل 18 عاما من العذاب, وقبل أن يغادر البيت أعاد التأكيد عليه والده مرة أخرى بأن والدته توفيت منذ زمن. كان ذلك بتاريخ 4-6-.2006 وبقي على هذا الحال حتى الساعة 1.30 بعد الظهر 28- 12-.2010 فدخلت والدته بصحبة اثنتين من أخواته على مكان عمله الكائن في طبربور, فانقشعت الغمامة السوداء التي حرمته من حضنها لأكثر من عقدين من الزمان.
دخول أم علاء لم يكن مصادفة, إذ كلف هذا كثيراً من الوقت; جراء البحث والتقصي من قبل صاحب العمل والمحامي أبو راشد, اللذين ما انفكا يبحثان في سجلات الأحوال المدنية, ويسألان كل قريب وبعيد, متجهمين عناء التنقل بين المحافظات; بحثاً عن مكان سكناها, بعد أن أكدت سجلات الأحوال المدنية أنها ما زالت على قيد الحياة.
تقول أم علاء التي انشغلت عن ابنها بزواجها الجديد: زواجي بعد انتهاء العدة الشرعية مباشرة, منعني من الاحتفاظ به سوى ايام معدودة بعد ولادته.
وتتابع لم أحاول أن أبحث عنه مطلقاً; متعذرة بكثرة المشاكل مع زوجها والد علاء والتي افضت إلى مثولهما في احد المراكز الأمنية.
علاء الذي يتقاضى 190 دينارا جراء عمله في إحدى المؤسسات الكبرى في طبربور, يدفع 42 ديناراً نفقة أب, و50 أخرى بدل أيجار, وما تبقى بدل أن تسول.
هناك ما قد مات في قصة علاء منذ زمنٍ بعيد, الكثير الكثير مات ولم يعد حيا, ضميرٌ وكرامة ماتا معا فكثيرةٌ هي الشياطين التي تستحي من قصصٍ كهذه.