من الامور اللافتة في مهرجان (كان) السينمائي في دورته لهذا العام هو طرح معظم افلامه الفائزة في دور السينما حول العالم وقد عرضت في مقالات سابقة لافضل فيلم وكذلك عرضت لفيلم عربي من لبنان فاز بجائزة في هذا المهرجان وسأعرض في مقالتي هذه للفيلم الفائز بجائزة افضل مخرج وسأتناول في مقالة قريبة الفيلم الفائز بجائزة افضل ممثلة وهي افلام تستحق المشاهدة وجذبت اعدادا كبيرة من المشاهدين في دور السينما مثل فيلم اليوم وهو (DRIVE) والذي كان ضمن افضل عشرة افلام في شباك التذاكر الامريكي (BOX OFFICE) قبل فترة قصيرة جدا وعرض في عدد من دور السينما في الاردن وهو فيلم حركة وتشويق وفيه الكثير من العنف المتجلي في ابشع صوره ويصلح كأنموذج صارخ على ذلك الجانب المتوحش من الانسان فمقابل التقدم التكنولوجي الهائل هناك نوع من الردة للانسان نحو عصور التوحش والكهوف فكثيرا ما يداهمنا الغثيان ونحن نقرا عن بشاعة جرائم لا نعرف هل اشقى العقل الانسان فيها ام اسعده?
هذا الفيلم (DRIVE) فاز مخرجه الدنماركي (نيكولاس رفن) بجائزة افضل مخرج في مهرجان كان كما ذكرت بداية ونافس على السعفة الذهبية وهي الجائزة الارفع وفي هذا الفيلم اظهر المخرج قدرة فنية مبهرة في رسم لوحة بشعة لتلك الروح التي تسيطر عليها النزعة المادية ولاجل هذا تفعل هذه الروح كل انواع القسوة لتحقيقه واذا تأملنا ما يمور في قلب العالم الرأسمالي من تظاهرات ضد جشع اصحاب المال نعرف الحال التي اصبح عليها كوكبنا الارضي فهناك اغنياء بملابس انيقة يسرقون كل شيء وهناك فقراء وجدوا ان رغيف الخبز في ايديهم يتعرض لقضم سريع من الاغنياء اصحاب الكروش السمينة لذلك تحول عدد كبير من الناس الى مطاردين للثروة وباية طريقة كما ظهر في فيلم اليوم والمقتبس عن رواية للكاتب الامريكي (جيمس ساليس) تحمل نفس الاسم وقد ابدع كاتب النصوص السينمائية (حسين اميني) في تطويع الرواية الى لغة بصرية مبهرة فالفيلم يحبس الانفاس ويأخذنا بشدة لعالم الترقب واعتقد ان الكثيرين لن يحتملوا مشاهد العنف التي ظهرت في الفيلم مثل مشهد قتل (كوك) على يد (بيرني) والذي ادرت وجهي جانبا ولم اكمل المشهد لحدود القسوة التي تهاوت في هذه اللقطة.
يحكي الفيلم قصة سائق سيارة يبقى طوال الفيلم بلا اسم فقط هو معروف باسم (سائق) ولعب دوره الممثل (راين غوسلنج) ويبدو ان عدم ذكر اسم السائق يعود الى احتمالية ان يكون اي شخص في حياتنا القائمة بالمطلق على المادية هو نفس شخصية السائق وهذا السائق كان يعمل في كراج سيارات لشخص اسمه (شانون) ويقوم كذلك باداء الحركات الخطيرة في الافلام بدلا من الممثلين هذا هو الجانب الظاهر من شخصيته ولكن الجانب المعتم الاخر له هو عمله في قيادة السيارة بسرعة لتهريب المجرمين من مكان السرقة مقابل مبلغ من المال وكانت له فلسفة غريبة في هذا الجانب فهو لا يعمل مع مجرمين الا لمرة واحدة ثم يعمل مع غيرهم.
ينقلنا المخرج الى حياة السائق الخاصة فنراه يعيش في شقة متواضعة تقول عن الدافع وراء مساعدة السائق للصوص. في اجواء ومشاهد السرقات اظهر المخرج براعة في التحكم بزوايا التصوير فهو لم يتعمد ويبني مشاهد السرقات على الابهار البصري بل التزم بالطريقة الكلاسيكية في الانتقال من لقطة الى اخرى لكن قدرته على حبس انفاس المشاهدين عبر جعلهم في قلب الحدث هو ما اسهم في انجاح الفيلم وحقيقة هناك تطابق تام في التصوير بين هذا الفيلم والفيلم الاكثر من رائع (no country for old men ) والذي فاز بعدة جوائز اوسكار. تتطور احداث الفيلم وتأخذ منعطفها الرئيسي عندما يتعرف السائق على جارته (ايرين) وابنها الصغير ( بنيشيو) وهي امرأة لها زوج في السجن بسبب السرقة وعندما يخرج زوجها (ستاندرد) يتلقى تهديدا من رجل عصابات اسمه (كوك) بان يعيد نقوده والا فان زوجته وابنه سيصبحان في دائرة الاستهداف والتصفية هنا يجد السائق نفسه في عملية سرقة مع (ستاندرد) لانقاذ زوجة الاخير وابنه وهي محاولة من المخرج للقول انه علينا فهم تلك التركيبة النفسية للمجرم والدوافع التي جعلته ينزلق في هاوية اوحال الخروج من الفطرة الانسانية السوية القائمة على رفض الجريمة لكن هذا لا يعني ان نجد العذر للشيطان في اغوائه لادم وحواء لاكل تلك التفاحة, فالشيطان عاد واسقط التفاحة لكن سقوطها افاد البشرية عبر (نيوتن) من دون ان يقصد الشيطان بالطبع فائدة البشر. اثناء السرقة يتم قتل (ستاندرد) ويهرب السائق والمرأة التي كانت تساعدهم وهي ( بلانشي) ومرة اخرى تفيض الشاشة بالدماء عندما يقتل رجال (كوك) المرأة (بلانشي).
يظهر على مسرح الاحداث رجل عصابات اسمه ( نينو) وهو يهودي يقوم بخطف (ايرين) وطفلها بعد ان قام (بيرني) بتصفية (كوك) يطارد (نينو) السائق لاعادة النقود مستخدما ورقة (ايرين) وطفلها وبسبب صورة (نينو) الاجرامية في الفيلم اقامت سيدة امريكية قبل فترة دعوى قضائية ضد الفيلم واتهمته بتلك التهمة المعلبة بالسموم وهي (معاداة السامية) فاليهودي وحسب المنظمات الصهيونية هو شخص يحب الخير ومسالم لا يعتدي على الاخرين, اما غير ذلك فهو (معاداة سامية) وكلنا يعرف هذه الاكذوبة والخطير هنا ان بعض القنوات الفضائية العربية تعرض افلاما تروج لاكاذيب الشخصية اليهودية. ينجح السائق في انقاذ (ايرين) وطفلها من اليهودي (نينو) والذي يقوم رجاله بمطاردة السائق والمرأة و ابنها وفي مشهد اخر مليء بالقسوة يقتل السائق رجلا في المصعد كان يطارده والمرأة ومن مشهد المصعد نرى ان جميع الامكنة تحولت الى ميادين صراع شرس يغيب عنه العقل ويحضر فيه الجانب المعتم بكل تجلياته وذات مرة سألت صديقا بريطانيا كنت واياه في حديقة الحيوانات حيث تخيلت سيطرة الحيوانات على الارض في زمن ما وتم وضع الانسان في قفص في حدائق فهل ستدفع الحيوانات فلسا واحدا للدخول ومشاهدة هذا الانسان? تمضي احداث القسوة الى الامام ونشاهد شخصا اسمه (بيرني) يهجم على السائق ويطعنه بقوة في بطنه ثم نرى السائق يترك (ايرين) والنقود ويمضي في طريق مظلم حيث يشكل هذا المشهد الختامي نهاية الفيلم وهي نهاية مفتوحة تترك المشاهد يبني احداثها حسب خياله. هذا الفيلم يستحق المشاهدة, فالمخرج برع في استحضار اجواء افلام مطاردات سادت في نهاية الستينات والسبعينيات وبالتحديد فيلمي (LLulis) عام 1968 ( The DAY OF The LOCUST) عام 1975 كما اشار المخرج الذي اشاد بفيلمه هذا الكثير من النقاد وحقيقة اعتبر هذا الفيلم قصيدة بصرية صاخبة فيها الكثير من الرثاء لذلك المستوى المتوحش الذي وصله انسان هذا العصر وبالمناسبة هناك اغنية اجنبية تفيض رقة وعذوبة عنوانها نفس عنوان الفيلم (DRIVE) لفرقة (THe CARS) من سنوات الثمانينيات وما بين الاغنية الناعمة والفيلم القاسي هناك حياة تحمل كلا الوجهين ولولا الليل ما عرفنا فضائل النهار.