هذا عنوان المعرض الذي أقامته الفنانة الاماراتية "فاطمة لوتاه" على صالة كاليري "دوسي" في مدينة "فيرونا "الايطالية" في 18 ديسمبر، والذي سيستمر الى منتصف الشهر القادم. في المعرض الحالي نلاحظ التحول الحدي الذي تمارسه الفنانة في العديد من اعمالها المعروضة، أستطيع القول "معظمها"، حيث تنتقل من التأمل الروحي الذي أعتادت عليه في أعمالها وفي معارضها السابقة الى الانفعال التسجيلي، ربما العملي المتزاحم بسبب الاحداث الاخيرة، والتغيرات السياسية والاجتماعية التي فاجئت المنطقة العربية والعالم، وهي تحاول التفاعل، أو تتفاعل بشكل مباشر مع الحدث العربي لتخلق كونا تشكيليا هي تعرفه.
أحيانا يصيب الفنان في التعبير عن واقع "بطريقته"، وأحيانا لا يصيب. أنا لست من الذين يتأملون من العمل الفني نتيجة أيجابية ومباشرة من خلال الحدث كما يصير عادة مع الاناشيد والشعارات وحتى مع الموسيقى، العالم العربي جرب هذا خلال أكثر من نصف قرن، اما فيما يخص العمل التشكيلي الصامت، والابدي والذي يتفاعل مع هذه الاحداث هو شأن اخر.
لا يمكن مقارنة موسيقى "المسيرات العربية" والاناشيد الثورية التي لها تأثير مباشر ومؤقت على مشاعر الجماهير. الفنان التشكيلي وعمله لا شأن له في هذا، فهو بطبعه اكثر استقراءا للحدث، وأكثر تاملا وبعيدا عن "الشعاراتية" سياسية كانت هذه، او اجتماعية رغم استحقاقها، هذه مهمة "اللافتات" ومهمة من يخطوها بلون اسود، اواحمر بحروف كبيرة،.
مهمة الفنان شان اخر، اكبر من الانخراط في "المسيرات "الجماهيرية العادلة في الكثير من الاحيان، الفنان لا يؤرخ، ولا يلهب المشاعر، العمل الفني، التشكيلي والنحتي يحاكمه التأريخ في النهاية.
ربما ستكون هذه المقدمة ليست مناسبة كما كنت اود، ولكنني أردتها مدخلا بعد مشاهدة معرض الفنانة الاماراتية الاخير في مدينة "فيرونا الايطالية والذي سمته "صرخة حمزة" في أشارة الى الحدث المأساوي الذي تعرض له طفل سوري أثناء بدء الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية ضد النظام السوري خلال الاشهر الاخيرة.
رغم ان عنوان المعرض يشير الى حدث محدد، فهي تعرض العديد من اللوحات الكبيرة، وبأحجام مختلفة ايظا، وبتقنيات متنوعة توثق فيه الفنانة مختلف الاحتجاجات الشعبية التي حدثت في العالم العربي منذ بداية العام الماضي، خصوصا تلك التي بدئت في مصر، مرورا بتونس وليبيا، والان في سوريا.
الفنانة لا تخفي التزامها الاخلاقي قبل كل شئ مع هذه الحركات الشعبية ونتائجها القاسية، ولكنها لا تمتطي هذا الالتزام ليجعلها عنصرا رئيسيا ومهما في حركات التغييرهذه، فهي اكثر من هذا بلغتها التشكيلية حيث تطرح تردي الشرط الانساني وقدره المؤلم في مجتمعات ضاقت ذرع بشعارات زائفة، ونفاق سياسي زامن الانظمة والمجتمعات العربية خلال العقود الخمسة الاخيرة، الفنانة هنا امام موقف معقد من كل جوانبه، فهي تصطف مع من بدأومعركة التحول هذه وترى كيف يخسروها مرة أخرى، شعوبا ومجتمعات لم تتمتع يوما بهويتها الحرة،
تعرض الفنانة "فاطمة لوتاه" اكثرمن 30 عملا فنيا، وهذه تقترح التنفيذ في أستخدام العديد من التقنيات الفنية، التقليدية، والحديثة، بدئا من التخطيط على الفح الغليض في مجموعة كانت قد نفذتها اثناء حركة "ساحة التحرير" القاهرية في بداية العام الماضي، والتي اطلقت عليها عنوان "غضب النيل"، في هذه المجموعة تعكس صرخات الحزن والغضب معا مرسومة في الفحم الاسود الذي يمنح هذه المناسبات شرعية حزنها، مع نثر اللون الاحمر في مساحات محددة من اللوحة كي تعطي انطباعا مثيرا على أرضية تعكس رملا ودم في ان واحد، ودائما قريبا من افواه تتوسل، أوتصرخ، وهي هنا لا تبالغ في هول الفاجعة.
بجانب الاعمال الكبيرة الحجم المعلقة منها، وتلك التي تتبسط الصالة، تواصل الفنانة تقنيتها المعتادة في تنفيذ تتزاحم فيه العناصر اللونية، والمفردات التشكيلية التي أعتادت عليه في معارض سابقة.
عدد من اللوحات في المعرض نفذت أولا في تقنية "الديجيتال" فيها تحاكي الفكرة الاولى، اوما اعتاد عليه الرسام التشكيلي في تخطيط أولى للفكرة على الورق أوعلى القماش، وهنا تخاطر الفنانةفي خوض اسلوب تقني يمر عبر "الكومبيوتر" وهذا يتلخص في طبع "سكيتش" الديجيتال على الكانفاس، ثم اعادة صياغة اللوحة بالوان حقيقية من "زيت"او"أكليريك" وليست افتراضية كما نشاهدها على الشاشة، وهي تنجح في العديد من هذه اللوحات دون شك، ولكن التقنية التشيكيلية من خلال الكومبيوتر "ديجيتال" ما زال جديدا في العمل الفني البصري، أوالتشكيلي في هذه الحالة، وباعتقادي ان هذا سيكون حتميا في المستقبل القريب، وفقط التطبيق المتواصل يضمن نتائج بصرية مريحة. الفنانة هنا في بعض اللوحات القليلة تجنبت الاظافة اليدوية والحرفية التي تعرفها جيدا.
بعيدا عن عنوان المعرض، أعتقد ان الفنانة خاضت تجربة "تقنية"جديدة على الفنانين التشكيليين، "الكومبيوتر"سيكون اداة أخرى في الابداع الفني دون ترك حقيقة الالوان وروائحها، دون ترك "الحرفية"الفنية جانبا. وانا أخشى على بعض الفنانين الذين اكتشفوا هذا التكنيك، وتركوا جانبا اهمية"يدوية"العمل الفني.