حين أُعلن عن القائمة الطويلة لجائزة "بوكر" 2012، تعالت أصوات أدبية عديدة تشكو تهميش الرواية العراقية، ولكن، دون الاتفاق على تحديد جهة بعينها يمكن أن يقع عليها اللوم... فهناك من يرى أن التهميش صادر من لجنة التحكيم، وآخر يصب غضبه على دور النشر التي صارت "تتاجر" - على حد قولهم – بعملية الترشيح، وهناك رأي أكثر قساوة، يفيد أن لا رواية عراقية تستحق حتى جائزة مدرسية!!!... إلا أن الرأي الأكثر اتفاقاً بين الأصوات يقول إن العراق لا يمتلك دور نشر تحترم المنتوج الروائي العراقي حتى تفكر بالترشيح، وأن هناك دور نشر عراقية بـ "الاسم" فقط، تتخذ من دول أخرى غير العراق مقراً لها، لم نتلمس منها أي تجاوب مع الناتج الروائي العراقي. رأي آخر ذهب إلى تحليل الشخصية العراقية المثقفة، الشخصية المنتمية إلى عالمي الأدب والفن، حيث يرى فيها نرجسية كثيراً ما تفضي إلى عدائية واضحة صوب الآخر، همها تسطيح وتهميش الآخر وإقصاؤه من المشهد الثقافي خصوصاً إن كان يستحق أن يكون في الصدارة، وهذا الرأي يستند على غياب الرواية العراقية من القائمة الطويلة لجائزة البوكر لمرتين، وفي المرتين كان رئيس لجنة التحكيم عراقياً!!... الغريب أن كل تلك الآراء وغيرها، تبدو صحيحة!! والأغرب من ذلك، أن كل الردود التي يمكن توقعها للرد على هذه الآراء تحتمل من الصحة والصواب الكثير. ترى هل الرواية العراقية مهمشة بالفعل؟
مع بداية الترشيح للدورة الخامسة لجائزة "البوكر"، كانت التوقعات تتجه صوب خمس روايات عراقية – أو ربما أكثر من هذا العدد - حظيت بصدى جيد في وسائل الإعلام خصوصاً المقروءة منها، حيث تناولتها العديد من المقالات وبـ "إيجابية" واضحة، مثل رواية "وحدها شجرة الرمان" لسنان أنطوان (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2010) ورواية "تغريبة ابن زريق البغدادي الأخيرة" لسلام عبود (دار الحصاد، دمشق 2010 ) ثم رواية "المحرقة" لقاسم محمد عباس (المدى 2010) ورواية "الأمريكان في بيتي" تأليف نزار عبد الستار (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2011) ثم رواية علي بدر "أساتذة الوهم" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2011)، الذي وصلت رواياته إلى القائمة الطويلة لمرتين قبل ذلك. وربما لم يكن عامل الوقت بصالح الروايتين الأخيرتين، من حيث تاريخ الإصدار ونهاية المدة المحددة للترشيح. وبكل تأكيد هناك روايات أخرى كان لها نصيب محمود في آراء بعض النقاد من خلال مقالات نقدية وصحفية عديدة، فهناك أكثر من 15 رواية عراقية صدرت عام 2010، وأكثر من عشر روايات صدرت عام، 2011. إلا أن مفاجئة عدّها البعض "ثقيلة" قد خرجت بها القائمة الطويلة لجائزة "البوكر" في دورتها الخامسة، تتمثل في ترشيح رواية "تحت سماء كوبنهاغن" لحوراء النداوي (الساقي 2010)، وهي الرواية الأولى للنداوي. جاء ذلك بعد أن غابت الرواية العراقية عن القائمة، في الدورة الرابعة. لذا فقد رآى البعض في ترشيح هذه الرواية مجاملة للرواية العراقية، كونها غابت عن الدورة السابقة، وهناك من قال إنها حركة محسوبة كي تحظى بعض الروايات المرشحة بنصيب جيد في الوصول إلى القائمة القصيرة من خلال ترشيح روايات ضعيفة إلى جانبها. وبكل تأكيد هناك مَنْ فَرح لهذا الترشيح كونه يعد دعماً معنوياً للطاقات الروائية الشابة... ومن أجل هذا اتجهنا صوب بعض الروائيين العراقيين كي نستطلعهم حول هذا الموضوع، فوجدنا تبايناً كبيراً بالآراء، تماماً كما تلمسناه في الصحف والمواقع الإلكترونية التي تناولت الموضوع نفسه، وها هو الروائي سعد سعيد يقول: "نحن في النهاية روائيون وقراء وقلة منا من يصلح للنقد والتقييم. وعلينا أن لا ننسى أن النقد نفسه يعاني من مشاكل في منطقتنا العربية ولذلك لا يمكن لهذا الأمر أن يبلغ مبلغ الإتقان أبداً... أما عن رواية "تحت سماء كوبنهاغن" فالحقيقة هي رواية جيدة لكاتبة مبتدئة ولكني لا أرى فيها منافسة لرواية يوسف زيدان مثلاً، أما لماذا رُشحت هذه الرواية دون نتاجات الروائيين العراقيين الآخرين، فهنا يمكننا أن نشير بأصبع الاتهام إلى دار الشؤون الثقافية العراقية التي تعجز ورغم الإمكانيات المتوفرة لها عن منافسة دور النشر الأهلية!"... أما صاحب روايتي "إعجام" و"وحدها شجرة الرمان" سنان أنطوان فإنه يرى بأن: "الثقافة لا تنتشر ولا يروّج لها من الفراغ. لا بد من وجود مؤسسات حيوية تضطلع بهذه المهمة، مؤسسات خاصة، أو أخرى مرتبطة بالدولة. والثقافة في العراق لم تكن أبداً على قائمة الأولويات، بل بالعكس، حُوربت ودُمّرت. لذا نجد الروائي العراقي يعمل لوحده في ظروف صعبة وقاسية وبدون دعم مؤسساتي. ثم أن ظروف النشر داخل العراق وخارجه صعبة جداً وقاسية. وعلينا أن لا ننسى دَور الناشرين في عملية الترشيح، والفساد واللامهنية التي يتعامل بها معظمهم... غالباً ما تكون الجوائز بعيدة عن القيمة الأدبية أو الإبداعية للنص، حيث نجدها مرتبطة بالمنظومة الثقافية المهيمنة في المنطقة، حيث تلعب المؤسسات وشبكات العلاقات والقائمون على الجائزة دوراً كبيراً بهدف صوغ ذائقة معينة وصورة محددة للثقافة العربية يغلب عليها هاجس مخاطبة "الآخر الغربي" وإرضاؤه، لذا علينا أن لا نعوّل كثيراً على "البوكر" أو على الثقافة المؤسساتية السائدة من أجل الاعتراف بالرواية العراقية التي أجدها غنية وقوية وتكتنز مواهب رائعة..."
لا نخفي سراً إن قلنا، أن هناك من الروائيين العراقيين من أدلى برأيه، ولكنه طلب عدم ذكر اسمه... قد يكون السبب واضح، فهم لم يقرروا بعد عزوفهم عن كتابة الرواية، وإن البوكر لم تتوقف عند الدورة الخامسة.
قد يكون من المفيد أن نتناول روايتين عراقيتين – حسب ما تسمح به المساحة الممنوحة - الأولى لم تصل إلى قائمة البوكر على عكس الرواية الثانية، علنا نضع بين يدي القارئ نموذجين مختلفين، يمكن من خلالهما تأكيد أو نفي الآراء الواردة الذكر التي أدلى بها بعض من الروائيين العراقيين:
رواية "الأمريكان في بيتي" ... رواية عراقية لم تُرشح للجائزة:
نزار عبد الستارة... قلادة الملكة "شمشو" في بيتي
"أنا لا أستطيع الربط بين وجود الأمريكان في بيتي وبين ما يحدث في الخارج... إنني أشعر بالذل لأن الأمريكان في بيتي وهذا يجعلني أتعاطف كثيراً مع الوطن في حظه العاثر..." هذه الحيرة، وهذا الشعور المرّ نتلمسه في أماكن عديدة داخل الفضاء الواسع لرواية نزار عبد الستار "الأمريكان في بيتي" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2011) رواية تحتل أهمية خاصة بين الروايات العراقية التي صدرت بعد الاحتلال، كونها تتناول ظروف الاحتلال لمدينة الموصل، ثالث أكبر مدن العراق بعد بغداد والبصرة...
قد يظن القارئ ابتداءً، أن بطل الرواية التي بين يديه، ما هو إلا إرهابي ينتمي إلى أحد التنظيمات الكثيرة، والمختلفة في كل شيء، إلا في إراقة الدمع العراقي... "نظفت جيوبي من بطاقات التعريف الكاذبة والهويات المزورة التي أستخدمها لخداع نقاط التفتيش ورجال أمن مبنى المحافظة... وقفت بين عشرات المراجعين عند باب الاستعلامات الخلفي القريب من محطة وقود الجمهورية، في انتظار أن يأتي دوري للدخول إلى مبنى المحافظة." وقد يعزز وجود الأمريكان في بيته والتفتيش الدقيق والعبث بمحتوياته، هذا الظن. إلا أننا نكتشف أن بطل الرواية "جلال" ما هو إلا صحفي مثابر ومغامر، يتبنى فكرة الحفاظ على المظاهر الثقافية التي يحاول البعض طمسها، ويتمتع بعلاقات واسعة ومتشعبة... "الخدمة الإعلامية التي أقدمها لمجلس الحكم المحلي ثمينة. فغسل التصريحات وتنظيفها من الأخطاء السياسية التي توحي أن قائلها، بالكثير، سائق حاصدة زراعية، جعل "الغد البغدادية" تكسب أخباراً ملتهبة، ولأنني أجعل كبيرهم وصغيرهم لا يقل بشعرة عن كيسنجر، فإن إعلام المحافظة يغفر لي عشرات التقارير التي أكتبها وأتطرق إلى الفساد وسوء الإدارة والاستياء الشعبي العام."
يحاول المؤلف ترسيخ عنوان روايته في ذهن القارئ من خلال تكرار مشاهد اقتحام مجموعة الجنود الأمريكان لبيته، تماماً كما يحاول استمالة القارئ إلى أن هناك الكثير من العراقيين يعملون بجد ويتحدون كل المخاطر من أجل البقاء على الطابع الثقافي للمدينة بل والعمل على تنميته رغم كل مظاهر القتل والدمار التي يشهدها الشارع العراقي، ولكن، لماذا اختير بيت "جلال" تحديداً لتواجد القوات الأمريكية داخله؟ وهل هم بالفعل يرومون تأمين سلامة الشارع من العبوات الناسفة والسيارات المفخخة؟ الحكاية تعود أصولها إلى زمن الديكتاتور، حيث "كمال" الشقيق الأكبر لجلال، هذه الشخصية التي تدخل في صلب الفكرة الروائية، وبشكل مؤثر... "في عام 1992 أصبح كمال مسؤولاً بشكل مطلق على التنقيبات السريعة التي كانت تجري على مساحة ميل مربع في موقع القصور الرئاسية على تل بالقرب من الغابات السياحية حيث يمكن مشاهدة دجلة ينحني كراقصة وسط خضرة فائضة." وحينها يعثر "كمال" على مدفن الملكة "شمشو"، يدخله، ويأمر بنقل العظام خارجاً، ثم يطرد الجميع ليبقى وحيداً داخل المدفن كونه قد وجد ما كان يحلم به، قلادة الملكة "شمشو"، يدسها في جيبه ويخرج آمراً بهدم المدفن وإزالته بشكل تام. وهنا تدخل الرواية حيزاً مهماً، حيث تتحول فكرتها من تدوين مشاهدات الموت والإذلال اليومية بفعل الاحتلال، ومكابدات الصحفيين في التحرك واصطياد المعلومات الدقيقة، إلى تجارة عصابات وسرقة آثار ومؤامرات جُيّشت لها الجيوش، ليتضح لنا أن تواجد الأمريكان في بيت "جلال" لم يكن إلا للبحث عن قلادة الملكة التي يعتقد أن "كمال" قد أودعها لدى شقيقه، وهذا ما حصل بالفعل كما أخبرتنا الرواية. وأهمية هذه القلادة تعود إلى أهمية الملكة شمشو التي "يعتقد اليهود أنها ابنة سارة أخت النبي ناحوم... وإن النبي ناحوم وهبها قلادة من الذهب فيها حجر كريم يعود لخاتم النبي سليمان..."
لم يكتفِ المؤلف بهذا بل ذهب لفضح سرقات لا تقدر بثمن، من خلال صور روائية متقنة قد يجدها القارئ هامشية، أو تدور ضمن الحيّز الخارجي للرواية، إلا أنه سرعان ما يكتشف نتيجة كثافة هذه الصور وتتابعها أن سرقة آثار العراق كانت من أولويات الاحتلال، وإن الإشارة لها تدخل في صلب فكرة الرواية... "بعد أشهر من احتلال الموصل خصص الجيش الأمريكي منحة لتحديث مكتبة الأوقاف - التي تحتوي على مخطوطات بالعبرية والسريانية تخص مزار النبي ناحوم في منطقة "ألقوش" - وترميم قاعة المخطوطات، وقاموا بنقل ألف مخطوطة إلى جهة مجهولة وتعهدوا بإعادتها حال انتهاء أعمال الترميم... وبعد اكتمال العمل في المبنى أعادوا نصف المخطوطات والنصف الأخر لم يعد إلى الآن... التي لم تعد هي الأثمن، وأغلبها بالسريانية والعبرية".
تحدثنا الرواية عن بطلتها غير المباشرة "مناسك" التي ظهرت ملازمة لجلال في أغلب المشاهد، كيف لا وهي التي تعشقه لدرجة أنها تتمنى أن يتفجَّر جسدها وجلال بقنبلة إرهابية كي يختلط لحمها بلحم حبيبها إلى الأبد؟... صورة "رومانسية" غارقة في الدم ورائحة البارود، تنبثق من داخل الخراب وزمن الموت... صورة صاغها المؤلف بتقنية عالية قد تغري القارئ ليقتنع بـ "إنسانية" الفكرة... وهنا نجد أن المؤلف قد نجح في خلق شخصية "مناسك" إلى جانب بطل روايته لتحمل عنه العديد من الأعباء والمهمات التي كانت تثقل كاهله، وهذا ما يخبرنا به "جلال" حيث عرف "مناسك" حين "عملنا معاً في مبنى واحد. أنا في التلفزيون أعد النشرات الإخبارية وهي في الإذاعة تترجم مقتطفات مما أعده لتقرأه في نشرة منتصف النهار باللغة الإنكليزية. تركنا العمل معاً هرباً من القصف اليومي الذي يتعرض له المبنى بقذائف الهاون، (...) استولت "مناسك" على كل الأعمال التي لا يستوعبها وقتي وأظهرت، براعة من جعل الأمر يبدو كنشاط سكرتاري يخضع لقانون الطوارئ."... لنعرف بعد هذا أن "مناسك" كانت المخبأ الحقيقي لقلادة الملكة "شمشو" حيث كانت ترتديها تحت ثيابها على امتداد زمن الرواية التي أظهرت هماً ثقافياً عظيماً كان يحمله العديد من الشخصيات. هم ثقافي قرر الصمود بوجه كل محاولات التخريب والتهميش وطمس هوية المدينة العريقة، فمحاولة ترميم بيت أثري ليكون مركزاً ثقافياً، وتشغيل دار عرض سينمائية بعد تعطيلها، والعمل على جعل سوق الكتب رائجة رغم كل التهديدات، ما هي إلا دلائل على هذا الاهتمام الذي أراد المؤلف ترسيخه في أذهاننا،
في وقتٍ باتت الثقة معدومة بين أبناء العراق بفعل الموت والمتاجرة بالأرواح البريئة، حتى تسربت رائحة هذه الثقة الميتة إلى داخل العائلة العراقية الواحدة، إلا أن شخوص الرواية وبقيادة المؤلف أعلنوا عن تمسكهم بحلمهم الجميل، الحلم الذي تكتنزه الضمائر المثقفة في الاهتمام بنقاء الروح الإنسانية، وحفظ التراث وديمومة المظاهر الثقافية وحمايتها من الخراب الذي جاء به الاحتلال. هكذا ينهي نزار عبد الستار روايته:
- ها أنا ألوح بيدي حاملاً نسخة من كتاب الوثائق.. أتراني؟
- أرى..
- ماذا ترى؟
- أحلام.. أحلام.
رواية "تحت سماء كوبنهاغن"... رواية عراقية وصلت إلى القائمة الطويلة:
حوراء النداوي... للسذاجة رواية
"ولدتُ هنا في كوبنهاغن - الدنمارك، من أبوين عربيين عراقيين، هاجرا إليها من العراق بسبب ظروف أخبراني أنها كانت صعبة... ظروف لم أهتم كثيراً بمعرفتها وإن كان أغلبها قد حشر في رأسي عنوة من كثر الحديث عنها حتى ليخيّل إليّ أحياناً أني عاصرتها." كلمات جاءت على لسان "هدى" بطلة الكاتبة حوراء النداوي في روايتها "تحت سماء كوبنهاغن" (الساقي 2010). رواية أرادت منها النداوي أن تكون المرآة التي تعكس أمام القارئ واقع وأفكار ومكابدات الجيل الثاني من المهاجرين والمنفيين العراقيين في الدنمارك، لتسقطها بعد ذلك على أبناء الجاليات العراقية المقيمة في دول أوربية عدة. ولكن، هل نجحت النداوي في اختيارها لبطلة روايتها؟
لابد لاختيار بطل الرواية من بين جموع البشر وعلى اختلافهم، أن يكون منسجماً مع الفكرة... البطل هنا، يحمل بالضرورة فكرة الرواية ليضعها أمام القارئ بالصورة التي يبتغيها الكاتب، ولكن، ما الصورة التي أرادت المؤلفة توصيلها للقارئ من خلال بطلتها التي تصف نفسها على أنها: "مجرد مراهقة تفتقر إلى حياة مثيرة، في الوقت الذي تشعر فيه بالخزي من المثير الذي في حياتها.. مجرد مراهقة تثير الشفقة.. مراهقة، متبلدة الروح، دون ثراءٍ إنساني يذكر، تائهة الفكر، هادئة الطباع لا عن فضيلة.. قصة حياتها القصيرة لن تنفع يوماً في أن تكون رواية." هكذا تصف لنا بطلة الرواية نفسها، وهذا بالضبط ما يعيب رواية النداوي، فالرواية من بدايتها حتى النهاية مجرد أوهام وأفكار مشوشة يدخل الدين والتعصب الطائفي والانطواء داخل مجتمع ضيّق، في نخاع بنائها الروائي... الرواية تتابع يومياتها "هدى" منذ سنوات الدراسة الابتدائية حتى بلوغها الخامسة والعشرين... فتاة أعجبت بشاب يكبرها بعشرة أعوام حين كانت في السابعة عشرة من عمرها، وصارت تطارده بصور متعددة ومواقف متباينة، في الحقيقة تارة، وفي الخيال أحياناً كثيرة، حتى توصلت لفكرة كتابة فصول من رواية باللغة الدنماركية لتبعثها له عبر الإيميل - قبل أن يتعرف عليها - وتطلب منه ترجمتها إلى اللغة العربية... وحين يطّلع "رافد" على النصوص يجد أن أسلوب الفتاة في الكتابة ركيك، رغم أنها مولودة في الدنمارك "أسلوبها الركيك المباشر لم يغوني في البدء فكيف فعل فعلته في ما بعد؟..." وفي هذا إشارة إلى أن المترجم أو "رافد" يعلن ومنذ البداية حيرته من هذه الفتاة، هذه الحيرة التي ظلت مرافقة له حتى نهاية الرواية. ولكن الذي يثير الانتباه، أن تلك النصوص الركيكة باتت العصب الأساس في بناء رواية حوراء النداوي، نصوص تفصح عن أن الفتاة تعاني من عقد اجتماعية ونفسية عديدة يقف على رأسها ضآلة جسدها وقصر قامتها، وصولاً إلى أفكارها غير المتزنة والمتخبطة بين المجتمع الضيق الذي تعيشه وعائلتها، وبين البلد المنفتح كلياً على حياة.
الرواية تتوزع بفصولها بين ما تفكر به "هدى" وما تطمح إليه من خلال سرد متعاقب لأحداث وقعت بالماضي وأخرى في الحاضر، وبين أفكار وحيرة المترجم "رافد" الذي عشقته "هدى" رغم أنفه ورغم معرفتها بأنه رجل متزوج. ومن خلال قراءة أوراق "هدى" نتعرف على طبيعة التركيبة العائلية التي تنتمي إليها، فهي تنتمي إلى عائلة صغيرة متكونة من أب مهندس عاطل عن العمل، وأم حاصلة على بكالوريوس اللغة الإنكليزية، وهي الأخرى لا تعمل، حيث صبت جلّ اهتمامها على الحجاب والالتزام الديني بعد أن كانت متحررة وترتدي "الميني جيب" فترة الدراسة الجامعية... "أبي وأمي من جيل السبعينيات المتحرر، ذلك الجيل المتمرد على العادات والتقاليد بما فيها الدين الذي كانا يعتبرانه مصدراً أساسياً لكبح الحريات والتقدم."... ثم أخت "هدى" الكبرى "نخيل" التي لا تختلف كثيراً عن والدتها في تحررها السابق وتحجبها مؤخراً... إلا أن المهم في معرفة عائلة "هدى" هو ظهور الابن الأكبر للعائلة "عماد" الذي تُرِكَ في العراق حين قرر الأبوين الهجرة من العراق. حيث التحق بالعائلة وهو في العشرين من عمره، والذي كان من الممكن أن يكون نقطة التحول في البناء الروائي ويخلصه من الرتابة ويمنحها فكرة مهمة نتعرف من خلالها على شكل التباين بين من ولد وعاش في بلاد الغربة، وبين من أتى حديثاً بعد أن تكونت شخصيته في بلده الأصلي، خصوصاً إن كانوا أشقاء... إلا أن المؤلفة لم تقدم هذا إلا بشكل هامشي لا عمق أو فكرة له، ولم نعرف عن "عماد" وما كان يحمله من أفكار إلا الشيء القليل. حيث ومن اللحظة الأولى لظهوره، أعلنت "هدى" كرهها له، أو عدم انسجامها معه... "انطباعي عنه حينها شكّلته بسرعة.. إنه بارد! جاف! بل أكثر من هذا.. دمه ثقيل إلى درجة لا يمكن أن يكون معها أخي (...) لا أدّعي أني شعرت بكره ما من قبله، لكنه كان قطعاً لا يحبنا.".
قد يجد القارئ أن الرواية لا تتعدى كونها مختارات من دفتر يوميات اعتادت الفتاة كتابتها، شأنها بذلك شأن العديد من الدنماركيين الذين كتبوا روايتهم اليتيمة قبل أن يغادروا الحياة، روايات اعتمدت على يوميات مدونة في دفتر مذكرات، قد تصل وفي أفضل الأحوال إلى مستوى روايات الجيب... "لأنني لم أعش حتى الآن أكثر من العشرين بقليل فاسمحوا لي أن أكتفي بالأحداث تُنبئكم عن سنواتي. وهذا أسلوب اتبعته مع نفسي دائماً، حيث تعودت أن أؤرخ أيامي بالأحداث الكبيرة التي تطرأ عليها." ورغم هذا، نجد أن المؤلفة في أكثر من مكان تقحم بطلتها وتجبرها على الحديث في مجالات لا تعرفها جيداً، وذلك من خلال استعارات فنية اقتبستها المؤلفة بشكل ساذج جداً، لتظهر سذاجة بطلة روايتها... "تبدو لي الأشياء من نافذة القطار تكعيبية الشكل مثل لوحة لـ "بيكاسو"... وأنا لا أحب بيكاسو، إنه يصيبني بحالة كلوستروفوبية عبر حدوده البائنة وزواياه الحادة التي تضيق. هذه الزوايا التي ينظر منها إلى فنه، مختلفة بقدر يهينني.. أليس مجنوناً هذا الرجل الذي فضل رسم حبيبته مصابة بحول، معللاً رؤيتها هكذا أثناء تقبيلها؟! بالتأكيد ليس لي الاتفاق وزواياه وهو يدعي حولاً في حبه. فكيف لي إذن الثقة بحدة بصره الإبداعي إذا ما كان الحول نافذة له؟".
إن سذاجة وسطحية بطلة الرواية، ثم طرحها لأحكام "يقينية" على بعض الظواهر والمظاهر، انعكس سلباً على مستوى الرواية، كون أن الكثير من القراء شعروا أن البطلة ما هي إلا الصورة الحقيقية للكاتبة، وبالتالي فإن الأفكار المرتبكة والمشوشة والسطحية التي كانت تدور في ذهن الفتاة "هدى" قد أسقطت على الكاتبة ليتهمها البعض بالسطحية، وهذا ما قرأنا في بعض الكتابات والآراء التي تناولت الرواية صحفياً.