بعد أسابيع قليلة من قرار وزير الداخلية الأردني الأسبق عيد الفايز تحطيم الزجاج الفاصل بين المراجع والموظف في دائرة المتابعة والتفتيش المختصة بملف أبناء الضفة الغربية وبطاقاتهم الأردنية، رحل الرجل عن موقعه واستعانت الدولة بخلفه نايف القاضي وزيرا للداخلية في واحدة من مفاجآت التعديل الوزاري الأخير على حكومة نادر الذهبي.
ووصلت حدة الإحساس بالحاجة الملحة لاختيار القاضي تحديدا وزيرا الداخلية التضحية للمرة الثانية بوجود قريبين من نفس العائلة في موقعين سياديين فابن شقيق الوزير هو اللواء مازن القاضي مدير الأمن العام الذي اكتسب سمعته المهنية من حماسه الشديد لخطة الإصلاحات التي يقترحها القصر الملكي في ما يخص الأمن العام والعلاقة بين الشرطة والمجتمع.
وتلك قصة تجاوزها الجميع تقديرا للخيارات واحتراما للثنائي القاضي، لكن الوزير لفت الأنظار مبكرا عندما أجاب في يومه الثاني في الحكم والحكومة على ملاحظة صحافية اعتبرته متشددا على المعابر والجسور.. لحظتها جاء الجواب مفاجئا للسائل ولمن وصلته المعلومة فقد قال الوزير حرفيا: نعم انا متشدد وسأزداد تشددا عندما يتعلق الأمر بحماية الأردن.
.. إسقاط هذا الكلام على الأرض يعني ببساطة شديدة خبرا سيئا لضحايا تعليمات فك الارتباط مع الضفة الغربية وخبرا أسوأ للضحايا المرشحين الذين يزيد محيطهم حسب الوزير ونواياه ولجانه، فتعليمات فك الارتباط تم توسيعها في عهد بعض وزراء الداخلية لتشمل ضحايا جددا باستمرار رغم الاعتراضات والأجراس التي تقرع حتى من داخل دوائر النظام والمؤسسة.
الأجراس قرعها كثيرون في غرف مغلقة مع أصحاب القرار وبين القارعين الرئيس الأسبق طاهر المصري ووزير الداخلية الذي هندس قرار فك الارتباط رجائي الدجاني والكاتب الصحافي المهم خالد محادين وبعض العاملين في حلقات أساسية في مؤسسات القرار وغيرهم.
رأي المصري كان ان التوسع في سياسات التشدد وتبديل البطاقات على الجسور والمعابر يفقد الأردن هوامش مناورة أساسية مع أهالي الضفة الغربية، اما الدجاني فصاح قائلا: يا سيدي انا وضعت تعليمات فك الارتباط وما يجري الآن لا علاقة له بها ولا بهدفها ولا ببنودها ولا بما كان يريده والدك الراحل رحمه الله.
في ذلك الاجتماع الذي نظم مع ابناء مدينة القدس أمر الملك بالاهتمام بالموضوع ودفع باتجاه تشكيل لجنة للبحث في المسالة على ان يشارك فيها المصري والدجاني إضافة لمدير المخابرات آنذاك محمد الذهبي.
بعد عام تقريبا قال المصري: هذه اللجنة لم تجتمع وبعد ايام كرر علنا في النقابات المهنية ما حصل مؤكدا بان اللجنة لم تجتمع أصلا ملمحا إلى ان الفريق الذهبي وقتها لم يرد لها ذلك.
قبل ذلك حاول الوزير الأسبق عيد الفايز تشكيل لجنة مصغرة هدفها تصويب القرارات الخاطئة التي أطاحت بحقوق الناس تحت عنوان فك الارتباط... يومها قامت الدنيا ولم تقعد ضد الوزير الذي رميت في وجهه ومن كل مكان بيروقراطي او مضاد للوحدة الوطنية سلسلة من التهم المعلبة التي كان اقلها التورط في مؤامرة الوطن البديل.
رد الفعل من الدولة أيضا كان سريعا فقد وصلت إشارة للفايز تدعم عمله وتطالبه بإخفاء لجنته الإشكالية والتخفيف قدر الإمكان بصمت من ضحايا تعليمات فك الارتباط ووقف سياسية سحب الرقم الوطني.
وهي إشارة لم تعجب مسؤولين صغارا في مستويات أمنية وبيروقراطية ولم تعجب برلمانيين وصحافيين وسياسيين كبارا أيضا.
لكن ما حصل وقتها مع الفايز يقدم دليلا على ان بعض مؤسسات القرار المركزي في الدولة تضطر أحيانا لمجاملة مراكز القوى المحافظة أو الأصوات المرتفعة التي تحترف التحذير من التوطين، ليس فقط على حساب قناعات النظام ولكن على حساب الحق والقانون وأحيانا الدستور والأهم على حساب سمعة الدولة، فالحكومة الأردنية هي الوحيدة في العالم تقريبا التي تمنح الجنسية وتسحبها في أي وقت وفقا لمزاج صغار الموظفين او للمزاج الأمني.
والمفارقة ان تجاهل هذا التناقض والسعي لتجنب التحدث عنه له أصدقاء كثر وهو الموضة المتبعة في أروقة القرار حيث لا يوجد حتى الآن من يؤمن بأن التحدث بالجرائم التي تنتج بسبب تعليمات فك الارتباط ممكن ومتاح ويخلو من التكلفة او منتج، فرصد هذا التناقض من قبل اي ناشط او إعلامي او سياسي يحشره بين خيارين: الاتهام بمساعدة الصهيونية على مشروعها او الخروج من عباءة الولاء والانتماء والمواطنة الصالحة.
التهمة التي وجهت للوزير الفايز بعد خروجه من الحكومة كانت: التخفيف من حدة وعدد قرارات سحب الجنسية.. ولذلك ساد اعتقاد بأن خليفته القاضي يعرف ما الذي يحصل ولماذا جاء وهو يصر على انه سيتشدد أكثر على المعابر والجسور، فرغم كل الاعتراضات لا زالت لجان وزارة الداخلية مندفعة في سحب الجنسية وبالنتيجة تغيير حياة عائلات بأكملها بجرة قلم.
الانطباع السائد عندما عين القاضي وزيرا للداخلية كان ان الدولة الأردنية قلقة من احتمالات تشكيل حكومة إسرائيلية بقيادة المتشدد وراعي الترانسفير نتنياهو.
وتحت هذا العنوان انسجم الجميع مع الخيار فالأردني من أصل فلسطيني يقف الى جانب دولته الهاشمية وأشقائه في العشائر الأردنية عندما يتعلق الأمر بنتنياهو وبالوقوف ضد خياراته الكارثية.
لكن ما حصل وكما يلاحظ رئيس وزراء سابق مهتم بقرار فك الارتباط ان نتنياهو السيئ والخطير والذي خطط رئيس الوزراء نادر الذهبي لمواجهة خطواته بوزير داخلية متشدد على المعابر والجسور حضر الى العقبة وأصبح على الاقل بالنسبة للإعلام العربي شريكا محتملا في خطة إقليمية أمريكية عنوانها التضاد مع إيران.
وتلك لم تعد بكل الأحوال إشكالية أردنية فقط فتعليمات فك الارتباط وتطبيقاتها اليومية التي تطيح بأحلام واستقرار عائلات بأكملها مشكلة أردنية وطنية بحتة ينبغي ان لا تكون لها علاقة بحسابات الإقليم وفقا لقناعة وزير الداخلية الأسبق عيد الفايز.
وما تقوله الوقائع الآن ان اللجان التابعة لوزارة الداخلية لا زالت تمارس نفس لعبتها في سحب قيود المزيد من الأردنيين من أصل فلسطيني وبشكل يومي.
مؤخرا حصل توسع لافت في السياق، فعقود الزواج والمصاهرة تتعطل الآن لان دوائر القضاء بدأت تشترط موافقة وزارة الداخلية عليه وحمى السحب تلك بدأت تتسع لتطال دائرة علاقات المصاهرة الاجتماعية في تحول دراماتيكي بدأ يطال ملفات مدنية لأردنيين من ابناء العشائر تزوجوا فلسطينيات، وقصة الدكتور خليل ابو سوليم السلطي أصبحت دليلا على هذا الخطر فالرجل متزوج من فلسطينية منذ 23 عاما ولديه منها أربعة أولاد، وترى الداخلية أن اثنين منهم مع الأم تنطبق عليهم تعليمات فك الارتباط مما يعني انهم ليسوا أردنيين.
واعتماد المعيار الذي أدى لانقسام في عائلة أبو سويلم كبند جديد على جسد فك الارتباط الذي ينمو باستمرار يعني الانتقال لمرحلة جديدة في ضرب الوحدة الوطنية وتفتيت البنية الاجتماعية.
والغريب جدا ان هذا الانتقال لم يتقرر إطلاقا في مستويات القرار الاستراتيجي ولا في مجلس الوزراء أو البرلمان ولا في عمق أي مؤسسة سيادية، فكل محطات نمو تعليمات فك الارتباط بالماضي كان أصحابها وزراء داخلية تعسفوا في استخدام الصلاحيات وجاملوا تقديرات موظفين إداريين وأمنيين فيما يتخذ رئيس الحكومة شخصيا موقفا تنصليا وأحيانا اعتراضيا على ما يجري.