لهيب كشمش نعمان محامية تجرأت على عدي صدام حسين وقاضته لأنه قتل مرافق والده، فعذبها وأتلف دماغها، وهي مشردة اليوم في الشوارع، مجنونة تنتابها أحيانًا نوبات صحو، لم تهتم بها الدولة على الرغم من أنها وثيقة إدانة حيّة للنظام السابق.
بغداد: ما زالت الدهشة تعقد لسان كل عراقي يتعرف عليها، فيقف أمامها متأملًا ملامحها وواقعها الذي تعيشه منذ 25 عامًا، مستغربًا بقاءها حيّة مع الوضع المزري الذي تعيشه، ومستغربًا في الوقت ذاته الاهمال الذي يطالها من قبل الحكومة، خصوصًا أنها تعد وثيقة مهمة لادانة النظام السابق.
إنها المحامية لهيب كشمش نعمان، ولقبها مريم. لا احد يعرف عمرها الحقيقي، لكنّ هناك من يقول إنها من مواليد العام 1952، فحين اعتقلت كان عمرها 38 عامًا. وقد تعرضت للجنون القسري في العام 1988 من قبل النظام السابق بعد أن تطوعت للدفاع عن كامل حنا ججو، احد الحراس الشخصيين للرئيس السابق صدام حسين، ومتذوق طعامه، الذي قتله عدي صدام حسين.
يقال إنها رفعت دعوى قضائية ضد عدي بشكل رسمي، ما أثار نقمة الرئيس وأسرته، فتم اعتقالها وتعذيبها لأنها أقدمت على أمر ما كان عليها أن تتجرأ عليه. وتم حقنها بعقار أفقدها عقلها، لترمى في مستشفى المجانين، فهربت إلى الشارع، وهي تعيش مشردة منذ هروبها.
الشارع وسادتها
ما زالت هذه المحامية تتسكع في شوارع بغداد، وتنام حيثما تجد نفسها متعبة. تأكل مما يقدمه لها الناس ومما تخزنه في كيس كبير تحمله معها اينما ذهبت. يمدون لها يد العطف وكلمة (الخطية) باللهجة العامية التي ترثي لحالها. قبل أيام، كانت في منطقة الباب الشرقي وسط بغداد، تتمدد على الرصيف وكأنها تتكىء على وسائد وثيرة، ومن حولها أكياسها، وعلبة سجائر لأنها تدخن بشراهة.
قال باسم الخياط، صاحب محل خياطة في الباب الشرقي، لـ"إيلاف": "أعرفها منذ أكثر من عشرين عامًا، حين كانت تأتي إلى الباب الشرقي لتتسكع وتنام اينما تشاء، كانت شقراء وجميلة، لا اعرف اذا ما كانت قد تطوعت للدفاع عن ججو أم كلفتها أسرة القتيل بذلك، فربما تربطهما علاقة قرابة أو معرفة على الاقل، فعدي طلبها ليعرف التي رفعت دعوى ضده لتحاسبه على قتل حنا ججو، وأمر بتعذيبها ومن ثم حقنت بإبرة أدت إلى تلف دماغها".
أضاف: "في السنوات الاولى، كان اقاربها يأتون ويأخذونها، ولكن سرعان ما تهرب منهم وتعود إلى الشارع، ويبدو أن الظروف التي مر بها العراق في التسعينيات هجرتهم فلم نعد نراهم، وظلت هي تعيش في هذا الشارع وفي شارع الخيام، تنام تحت سلم إحدى العمارات، يجلب لها الخيرون الطعام والماء،وقد أتعبها الزمن وتغيّرت ملامحها".
حقنة في النخاع الشوكي
أكد الكاتب حيدر عاشور العبيدي لـ"إيلاف" متابعته لحالها على مدى سنوات، مستغربًا عدم الاستفادة منها كوثيقة حيّة لإدانة النظام السابق. قال: "كانت من العناصر الطموحة التي تسعى إلى تحقيق مجد شخصي في مجال عملها، فضلًا عن كونها امرأة توصف بأنها جميلة جدًا، وهذا ما جعل الانظار تتطلع اليها، وكانت تعمل باخلاص وجد وتسعى إلى تحقيق العدل".
أضاف: "ما أعرفه عن هذه المرأة المسيحية الجليلة أن الكنيسة اطلقت عليها لقب مريم العذراء، لانها لم تتزوج وحافظت على عذريتها وشرفها بالرغم من الظروف الصعبة التي مرت بها، هي وعائلتها التي استباحها النظام السابق، ما دفع اخوتها واقاربها إلى أن يتبرأوا منها، وإلى هرب قسم منهم خارج العراق بعد مصادرة املاكهم، وانا أستغرب بعد عشر سنوات من التغيير كيف ظلت هذه المرأة على حالها البائس، ولم يأتِ أحد من اهلها لنجدتها، وهي التي كانت تمثل الصوت العالي في وقت كان الظلم جائرًا".
وروى العبيدي أن هذه المرأة تطوعت للدفاع في قضية أحد أبناء طائفتها كامل حنا ججو، وفوجئ النظام السابق بوجود دعوى قضائية ضد عدي صدام حسين لقتله ججو، قدمتها إلى وزارة العدل وتمت المصادقة عليها، "لكنها لم تنم ليلتها في بيتها، بل اعتقلت وعذبت، حتى كاد معصمها ينقطع من قسوة السلاسل الحديدية التي تم تعليقها فيها، ولم تتنازل عن كلامها ولم تتراجع، فزرقت بإبرة في النخاع الشوكي كما اعتقد، تسببت في شل دماغها، وقسمت مخيخها إلى نصفين، نصف فيه ذاكرة عميقة جدًا وآخر بلا ذاكرة، وبعد ذلك رموها في مستشفى المجانين في الشماعية، فهربت منه إلى الشوارع".
نوبات صحو
تعرف العبيدي عليها في التسعينيات حين كان يعمل على مشروع عن السرد القصصي للمجانين في العراق، فكان يتابع المجانين أسابيع أو أشهرًا، فصادفها وتعرف عليها عن كثب وعرف حكايتها، فوجدها تمثل كارثة حقيقية، لأنها تعذبت كثيرًا وصمدت ولم تمت.
روى لـ"إيلاف": "من خلال متابعتي لها، وجدت أن نوبة صحو تنتابها بين حين وآخر، فتستذكر ما مرت به، وشاهدتها تترافع في تلك القضية وتمثلها بجدية، كأنها تقول إنها لو ترافعت حقيقة في تلك القضية لربحتها، وللأسف أن أولاد ججو أنفسهم استغنوا عن خدماتها، وما اعاروها أهمية ونسوها تمامًا، وهذه المرأة عزيزة النفس، وهناك أناس معينون يعطفون عليها ويعطونها الطعام والشراب".
اضاف: "خلال حرب 2003، كانت تختبىء في مجمع تجاري في منطقة باب الشرقي، تدخله ويقفل صاحب المجمع الباب عليها ويعطيها طعامًا وشرابًا خوفًا عليها، فتنام أيامًا، وهناك آخرون يعرفونها ويأتونها بالطعام والشاي الذي تحبه".
وختم العبيدي حديثه بالقول: "استغرب أن الدولة لم تنتبه إلى هذه المرأة، ويبدو أنها تغض النظر عنها، لأنها لا تريد أن تفتح ملفات قديمة، وانا اعتقد أن هذه المرأة اذا ما تم الاهتمام بها ورعايتها يمكن الحصول منها على أدلة ادانة خاصة عندما تنتابها نوبات الصحو، فبالتأكيد لديها أسرار كثيرة".
أول محقق
إلى ذلك، أبدى حامد الساعدي، صاحب محل لبيع الملابس في شارع الخيام، أسفه لمشاهدتها على هذه الحال من دون أية رعاية.
قال: كنا نراها مجنونة تتسكع قرب منتدى المسرح وشارع الخيام، وتدخن كثيرًا، لم نكن وقتها نعرف من هي، لكننا عرفنا في ما بعد، وقد اشيع وقتها أنها ترافعت للدفاع عن مواطن مصري متهم بسرقة عدي، واذكر أن المخرج التلفزيوني وديع نادر أنتج عنها فيلمًا بعد سقوط النظام السابق، عنوانه (لن استسلم ابدًا)، واشار فيه إلى أنها أول امرأة في تاريخ العراق تعمل كـمحقق عدلي".