نضبت الرحمة والرأفة من قلب طبيب، تخلص من عاملة إندونيسية في مديرية الأمراض الصدرية وصحة الوافدين بوزارة الصحة بصورة "لا إنسانية"، وتركها معلقة بين الحياة والموت، تنزف دما من فمها لإصابتها بسل معد فتك برئتيها.
وقال مستقدمها للأطباء في المديرية "أنا طبيب، سفروها، خليها تموت عند أهلها"، وقبل أن يولي هاربا، أعلم الاطباء بأنه طبيب يعمل في مستشفى خاص، وزودهم باسم وهمي له، من دون أن يقدم أي أوراق ثبوتية عن العاملة أو عنه.
الطبيب الذي نتحفظ عن ذكر اسمه والذي تقول المصادر إن العاملة كانت لديه ينفي من جانبه أن تكون له علاقة بالموضوع.
ووجد أطباء في المديرية "أنفسهم أمام جريمة بحق الإنسانية" من "هول وبشاعة" ما شاهدوه على جسم العاملة "مجهولة الهوية"، والتي وصل وزنها الى 20 كيلوغراما، جراء ما هي عليه من مرض وضعف، ووصلت قوة الهيموجلوبين في دمها الى 5، بحسب مدير المديرية خالد أبو رمان.
وقام أبو رمان وفريقه الطبي بفحوص طبية سريعة لإنقاذ حياة الخادمة، التي تبين أنها مصابة بسل معد منذ أعوام من دون تلقيها أي علاج، ما أدى الى أن يصل المرض الى مراحله النهائية، التي قد تفارق الحياة على إثرها في أي لحظة.
ولم يتعرف الأطباء على أسباب إصابة العاملة بكدمات خضراء، ظهرت على جسمها، وكذلك أدى حدوث تشنجات عصبية لها الى عدم تمكنها من الكلام لتفكيك لغز معاناتها، حسبما أضاف أبو رمان.
وقام أبو رمان وفريقه الطبي بتحويل العاملة الى "مصح النور الأميركي" في محافظة المفرق، لتتلقى علاجا مكثفا، وبعد 10 أيام من الرعاية الجسدية والنفسية تمكنت العاملة من كتابة اسمها بلغتها الأم "أنا أمينة بنت رونزا 28 عاما وأعمل عند طبيب نسائية وتوليد في مستشفى كبير اسمه (...)".
وبناء عليه، قام المصح المختص بعلاج مرضى السل وعزلهم، بإرسال هذه المعلومات البسيطة الى المديرية، لمتابعة قضية العاملة والتأكد من عدم انتقال العدوى لأسرة مستقدمها الطبيب.
ولم يتجاوز التحقيق من قبل الجهات المعنية في وزارتي الصحة والداخلية (مديرية الحدود والأجانب) سوى 15 دقيقة، كشف فيها النقاب عن اسم مكتب الاستقدام في منطقة العبدلي بالعاصمة عمان، والذي تعاون بشكل كبير وكشف عن اسم مستقدم أمينة، ليؤكد على ما قالته بأن "طبيبا استقدمها لمساعده والدته الطاعنة في السن"، وجاءت الى المملكة بتاريخ 22 آب (اغسطس) العام الماضي.
واستدعي الطبيب وزوجته وأولاده إلى المديرية، لإجراء فحوص سل، إذ تبين أن الجرثومة تسللت إلى رئتي طفليه، لكنه رفض علاجهما المجاني على نفقة الحكومة، واكتفى بالتعليق على أنه يتحمل مسؤوليتهما وسيعالجهما في مستشفاه الخاص.
بيد أن أبو رمان قال إن قانون الصحة العامة، يحتم على أي مصاب بهذا النوع من الامراض المعدية، أن تتم معالجته رسميا، ومن هنا فإنه سيتم جلب طفلي الطبيب عن طريق الحاكم الإداري، لاعطائهما العلاج الوقائي.
وأكد المستقدم للأطباء على أن غرامة مالية كبرى ترتبت عليه جراء إقامة العاملة في منزله، لكنه لن يدفعها، وعلى الحكومة تسفيرها كونها مصابة بسل معد.
وبخلاف ما توقعه الأطباء في المديرية، بأن طبيبا وزوجته ارتكبا "جريمة بشعة" بحق إنسانة ضعيفة ووحيدة، فذكروه أثناء مشادة كلامية بينهما "أن مهنتهم هي إنقاذ حياة البشر، بصرف النظر عن دينهم أو عرقهم"، بحسب ما قالة أطباء شهود عيان.
ولم تتمكن أمينه من طلب مساعدة أحد بعد أن بدأت تتلقى "صنوف التعذيب والتنكيل"، فكان خلاصها بمرضها المعدي وكدمات خضراء تلون جسمها، لتبث شكواها من عائلة أردنية تفننت بحجزها وتعذيبها، رغم أن جل حلمها، كان جمع مبلغ من النقود لتدرس به أطفالها الصغار في مدرسة خاصة بإندونيسيا.
مرهقة أمينه وخائفة، وهي تقول لـ"الغد" عبر مترجمتها جودي "ماما تضربني بشبشب بلاستيك على وجهي، وبكندرة على جسمي إذا ما نظفت بيت كويس".
وتضيف "ما أخذت راتبي منذ أن جيت على الأردن، وبابا مزق أرقام أهلي ما اتصلت فيهم، أنا مشتاق أضم أولادي بس أصير كويس وأشتري الهم ألعاب كتير".
وصلت أمينة الى المصح بملابس خارجية مهترئة لا تكاد تسترها، وملابس داخلية متعفنة ملتصقة بجسدها، وعظام جسد بارزة لشدة هزالها، فما كان من أعضاء الجمعية الأردنية لمكافحة السل التي تعودها يوميا، إلا أن خصصوا لها مبلغا لشراء احتياجاتها، بحسب أبو رمان نائب رئيس الجمعية الذي كان يتساءل "من سيحاسب الأسرة التي تسببت بكل هذه المعاناة للعاملة؟".
سفيرة النوايا الحسنة لمكافحة مرض السل في الأردن رانيا إسماعيل التي عادت أمينة في المصح الخميس الماضي، استهجنت ما قامت به هذه الأسرة، وبخاصة "أن ربيبها طبيب، تناسى قسم شرف مهنته بأن يحافظ على أرواح المرضى".
وقالت إسماعيل لـ "الغد" إن "الخادمة تعيش في حالة نفسية مزرية، وهي تخاف من كل إنسان يقترب منها، وكأنها عاشت في حبس انفرادي لفترة طويلة".
وتضيف أنا "شاهدة على جريمة هذا الطبيب وأسرته بحق الإنسانية"، لافتة الى أن أمينة ستعكس صورة غير حضارية عن تعامل أهل الأردن مع العاملات فور عودتها الى بلادها.
وتوقعت إسماعيل أن تقدم أمينة شكوى رسمية بحق مستقدمها "اللا إنساني" الى السفارة الإندونيسية ومنظمات حقوق الإنسان، لكن بعد أن تتماثل إلى الشفاء، لتتخذ الحكومة الإجراءات الرسمية بحق مستقدمها، الذي لم يتصل لمعرفة مصير أمينة سوى مرة واحدة عبر هاتف خاص ليسأل "هل ماتت أمينة أم إنها على قيد الحياه؟".
وأكدت إسماعيل على إن علاج السل في المديرية مجاني، وتسفير العاملة إلزامي على حساب مكتب المستقدم إذا تبين أنها مصابة بأحد أمراض ثلاثة معدية: السل والإيدز والكبد الوبائي، ودعت الأهالي الى دعم عاملات المنازل نفسيا من دون استغلالهم ماليا.
وتروي إسماعيل الى "الغد" رفضها الشديد لعدم تسفيرها عاملتها الفلبينية عندما اكتشفت إصابتها بسل "غير معد"، بل عالجتها، حتى تماثلت إلى الشفاء، مبينة أن تلك العاملة حاليا، تشجع زميلاتها للعمل في الأردن.
ويشار الى أن المركز الوطني لحقوق الإنسان حمل وزارة العمل، مسؤولية استمرار الانتهاكات بحق عاملات المنازل وما يتلوها من انتقادات دولية متواصلة.
وينتظر الأطباء في مديرية الأمراض الصدرية والمصح وسفيرة النوايا الحسنة أن تتعافى أمينة كليا من مرضها النفسي والجسدي، لمعرفة ما دار معها خلال الـ 12 شهرا الماضية. الغـد