أكد كبير مستشاري جلالة الملك للشؤون الدينية والثقافية والمبعوث الشخصي لجلالته سمو الأمير غازي بن محمد أن موضوع الأكثرية والإجماع والفرق بينهما لو تم حل عقدته كان يمكن لنا كأمة أن نتجنب نصف مشاكل آخر ثلاثة أعوام، مضيفا أن الإجماع هو قاعدة الركنين الأساسيين لأي نظام شرعي في الإسلام وهما البيعة والشورى»، مشيراً إلى أنه «في الغرب وفي الأنظمة الديمقراطية فإن الدولة تقوم وتنشأ بالإجماع ثم تتبدل الحكومات والحكم بالأغلبية".
وأضاف الامير خلال افتتاحه الاثنين أعمال المؤتمر السادس عشر لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الاسلامي «نحن المُسْلِمُونَ مُنْقَسِمُونَ بَينَ أنْفُسِنَا حَتَّى لَجَأْنَا في بَعْضِ الدّوَلِ إلى القَمْعِ؛ وأحْيَاناً إلى العُنْفِ؛ وأَحْيَاناً إلى سَفْكِ الدِّمَاءِ، وأحْيَاناً إلى الخَلْعِ؛ وَأحْيَانَاً إلى الخُرُوجِ المُسَلَّحِ مِنْ دُونِ الكُفْرِ البَوَاحِ؛ وَأحْيَانَاً إلى الصِّرَاعِ المَذْهَبِيِّ في الدِّينِ الوَاحِدِ؛ وكُلُّ هَذَا مِنْ غَيرِ أنْ يَعْرِفَ أكثَرُنَا الفَرْقَ بَيْنَهُم، إلى أنْ وَصَلْنا إلى الفِتْنَةِ العَمْيَاءِ الصَّمَّاء».
وتساءل سموه «في الحُكْمِ الإسْلامِيِّ هَلِ الشَّرِيعَةُ مَصْدَرُ السُّلُطَاتِ، أوْ الشَّعْبُ، أوْ دُسْتُورٍ مَا، أوِ الإجْمَاعُ؟ وهَلْ حُقُوقُ الإنْسَانِ في المَفْهُومِ الدِّيمقراطِيِّ تَتَنَاسَبُ مَعَ حُقُوقِ النَّاسِ وَمَقَاصِدِ الشَّريعَةِ في الإسْلامِ؟».
وفيما يلي نص كلمة سمو الأمير غازي
بسم الله الرحمن الرحيم والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى خَاتَمِ الأنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ أيُّهَا العُلَمَاءُ الأفَاضِلُ، أيُّهَا الأصْدِقَاءُ الأعِزَّاءُ، السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهُ وبَرَكَاتُهُ، أهْلاً ومَرْحَبَاً بِكُمْ في مُؤَسَّسَتِكُمْ (مُؤَسَّسَةُ آلِ البَيْتِ المَلَكِيةِ لِلفِكْرِ الإسْلامِيِّ) في المُؤْتَمَرِ السَّادِسِ عَشَرَ بِعُنْوانِ «مَشْرُوعُ دَوْلَةٍ إسْلامِيَّةٍ حَدِيثَةٍ قَابِلَةٍ للاسْتِمْرَارِ ومُسْتَدَامَةٍ». لَكِنْ قَبْلَ أنْ أَتَطَرَّقَ لِمَوضُوعِ اليَومِ يَنْبَغِي لِي أيضَاً أنْ أَذْكُرَ زُمَلاءَنَا الذِينَ انْتَقَلُوا إلى رَحْمَةِ رَبِّهِمْ مُنْذُ مُؤْتَمَرِنَا الأسْبَقِ في عَامِ 2010م. يَقُولُ اللهُ تَعَالى: « «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتطر وما بدلوا تبديلا» (الأحزاب،33 :23)، وهُمُ السَّادَةُ: 1. الأُسْتَاذُ الدُّكْتورُ عَبْدُ العَزِيزِ الدُّوْرِيُّ – المُؤَرِّخُ والبَاحِثُ العِرَاقيُّ الكَبِيرُ في التَّارِيخِ الإسْلامِيِّ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى.
2. سَمَاحَةُ الشَّيخِ الأسْتَاذُ الدُّكْتورُ نُوح عَلِي سَلْمَانَ القُضَاةِ – مُفْتِي عَامِ المَمْلَكَةِ الأُرْدُنِيَّةِ الهَاشِمِيَّةِ الأسْبَقُ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى.
3. مَعَالِي الشَّيْخِ الأسْتَاذِ الدُّكْتورِ عَبْدُ العَزِيزِ الخَيَّاطِ – وَزِيرُ الأوْقَافِ والشُّؤُونِ والمُقَدَّسَاتِ الإسْلامِيَّةِ الأرْدُنِيَّةِ الأسْبَقُ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى.
4. مَعَالي الدُّكْتورِ عَبْدُ الحَمِيدِ عُثْمَانَ – الوَزِيرُ بِرِئَاسَةِ الوُزَرَاءِ في مَالِيزْيَا – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى.
5. سَمَاحَةُ الشَّيخِ الدَّكْتور مُحَمَّدُ الحَبِيبِ الخُوجَهْ – الأمِينُ العَامُّ لِمَجْمَعِ الفِقْهِ الإسْلامِيِّ الدُّوَلِيِّ الأسْبَقُ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى.
6. مَعَالِي الأسْتَاذِ الدُّكْتورِ ثَرْوَتْ عُكَاشَةَ – وَزِيرُ الثَّقَافَةِ المِصْرِيُّ الأسْبَقُ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى.
7. الأسْتَاذُ رُوجِيه جَارُودِيّ – البَاحِثُ والمُفَكِّرُ والفَيْلَسُوفُ الفَرَنْسِيُّ والمُدَافِعُ عَنِ الإسْلامِ في المَحَافِلِ الغَرْبِيَّةِ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى.
8. وَأَخِيراً، لا بُدَّ لِي أنْ أذْكُرَ اسْتِشْهَادَ عُضْوِ المُؤَسَّسَةِ القَدِيمِ العَلاَّمَةُ الشَّيخُ الأسْتَاذُ الدَّكْتورُ مُحَمَّد سَعِيد رَمَضَان البُوطِيُّ بِتَارِيخِ 21 /3 /2013 م في مَسْجِدِ الإيْمَانِ بِدِمَشْقَ مَعَ حَفِيدِهِ أَحمدَ وأكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ مِنْ طُلابِهِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالى في اغْتِيَالٍ غَادِرٍ. و»إنا لله وإنا إليه راجعون» (البقرة،2 :156). الفَاتِحَةَ لأرْوَاحِهِمْ جَمِيعَاً .
أمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَوْضُوعِنَا اليَوْمِ الذِي هُوَ «مَشْرُوعُ دَوْلَةٍ إسْلامِيَّةٍ حَدِيْثَةٍ قَابِلَةٍ لِلاسْتِمْرَارِ ومُسْتَدَامَةٍ»، فَهُوَ مَوْضُوعُ السَّاعَةِ، وَهُوَ المَوْضُوعُ الأهَمُّ الذِي يَحْتَاجُهُ العَالَمُ الإسْلامِيُّ فِكْرِيَّاً في الوَقْتِ الحَاضِرِ بَعْدَ أحْدَاثِ آخِرِ ثَلاثِ سَنَوَاتٍ، فَإنَّنَا نَنْتَظِرُ بِشَوقٍ رَأْيَ وحُكْمَ العُلَمَاءِ أعْضَاءِ الأكَادِيْمِيَّةِ المَلَكِيةِ حَولَ هَذَا المَوْضُوعِ بِالذَّاتِ، لأنَّهُ – في رَأينَا المُتَوَاضِعِ – قَدِ اسْتَبقَتْ الحَوَادِثُ التَّفْكيرَ والحِوَارَ.
نَحْنُ المُسْلِمُونَ – «ومآ أبرئ نفسي» (يوسف،12 :53) – مُنْقَسِمُونَ بَينَ أنْفُسِنَا حَتَّى لَجَأْنَا في بَعْضِ الدّوَلِ إلى القَمْعِ؛ وأحْيَاناً إلى العُنْفِ؛ وأَحْيَاناً – وأقُولُهَا مَعَ الحُزْنِ الشَّدِيدِ - إلى سَفْكِ الدِّمَاءِ، كَمَا نَرَى هذِهِ الأيَّامِ؛ وأحْيَاناً إلى الخَلْعِ؛ وَأحْيَانَاً إلى الخُرُوجِ المُسَلَّحِ مِنْ دُونِ الكُفْرِ البَوَاحِ؛ وَأحْيَانَاً إلى الصِّرَاعِ المَذْهَبِيِّ في الدِّينِ الوَاحِدِ؛ وكُلُّ هَذَا مِنْ غَيرِ أنْ يَعْرِفَ أكثَرُنَا الفَرْقَ بَيْنَهُم، إلى أنْ وَصَلْنا إلى الفِتْنَةِ العَمْيَاءِ الصَّمَّاء،ويَبْدُو لِي أنَّ هُنَاكَ تَقْصِيرَاً في شَرْحِ الفَرْقِ بَينَ إبْدَاءِ الرَّأيِ والأمْرِ بالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ وكَلِمَةِ الحَقِّ أمَامَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ - وَهُوَ جَائزٌ بَلْ وَاجِبٌ في كُلِّ حَالٍ - وكَلِمَةِ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ والاسْتِدْرَاجِ تَحْتَ شَعَائِرِ الحُرِّيَةِ والديمقراطِيَّةِ التي تُؤَدِّي إلى الغَوْغَائِيَّةِ والفَوْضَى والفِتَنِ العَمْيَاءِ الصَّمَّاء. فأصْبَحْنا نَسْتَعْمِلُ ما يُنَاسِبُنَا مِنَ الدِّيْنِ لِكَي نُبَرِّرَ أفْكَارَنَا ومَآرِبَنَا ومَا نَنْحَازُ إليهِ دُونَ أنْ نَتَطَلَّعَ إلى نُصُوصِ وحُكْمِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ والحِكْمَةِ المُنْبثقةِ مِنْهُمَا بِتَجَرُّدٍ ومَوْضُوعِيَّة، مُسْتَذْكِرِينَ قَولَ اللهِ تعالى: «بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيرة». (القيامة، 75 :14-15).
وعَلَى أيَّةِ حَالٍ يَبْدُو لِي أنَّ المَوضُوعَ مَلِيءٌ بِاللُّبْسِ والالْتِبَاسِ ومُخَادَعَةِ النَّفْسِ والوَهْمِ والاحْتِيَال. فَعَلَى هذا يَجِبُ أنْ نَتَعَرَّضَ إلى أرْبَعِ مَسَائِلَ فِكْرِيَّةٍ كُبْرَى (على الأقَلِّ)، كُلُّهَا مُتَضَمَّنَةٌ في مَحَاوِرِ المؤتمرِ، وهيَ: 1. الدَّوْلَةُ الحَدِيْثَةُ: هَلْ لها نَفْسُ مَفْهُومِ الدَّوْلَةِ في التَّاريخِ الإسْلامِيِّ أوْ في الشَّرِيعِةِ؟ هَلْ لها نَفْسُ السُلُطَاتِ نَحْوِ الفَرْدِ في الفِكْرِ الإسْلامِيِّ أو حَتَّى في الفِكْرِ الليبراليِّ الحَدِيثِ؟ وعَلَى سَبِيلِ المِثَالِ، هُنَاكَ عَشَراتٌ مِنَ المجْمُوعَاتِ في الوِلايَاتِ المُتَّحِدَةِ تَعْتَرِضُ وتُقَاوِمُ سُلُطَاتِ الحكُومَةِ والدَّولَةِ وذلكَ بِنَاءاً على الدُّسْتُورِ الأميْركيِّ، وعلى أيَّةِ حَالٍ فَإنَّ سُلُطَاتِ الدُّولِ الحَدِيثَةِ تَتَغيَّرُ كُلَّ سَنَةٍ إنْ لم يَكُنْ كُلَّ يَوْمٍ، فَكَيفَ يَفْقَهُ ويُرَاقِبُ وَيَحْكُمُ العُلَماءُ على هَذِهِ السُلُطَاتِ ومُعْظَمُهَا سِرِّيَةٌ ومُعَقَّدةٌ تِكْنولوجِياً وقَانُونِيَّاً؟ 2. تَطَابُقُ الإسْلامِ والدِّيمقراطيَّة: قدْ سَمِعنَا البَعْضَ يَقُولُ إنَّ الدِّيمقراطيَّةَ والإسْلامَ هُمَا نَفْسُ الشَّيءِ، أوْ إنَّهُمَا مُنْسَجِمَانِ، أوْ إنَّهُمَا يُؤَكِّدَانِ عَلَى نَفْسِ المَبَادِئِ والغَايَاتِ، وقَدْ سَمِعْنا البَعْضَ الأخَرَ يُنكِرُ ذَلكَ تَمَامَاً، ويُحَرِّمُ الدِّيمقراطيةَ ويَعْتَبرُهَا بِدْعَةً غَرْبيةً. وهُنَاكَ أيضَاً مَنْ لا يُؤْمِنُ بِالدِّيمقراطيَّةِ وَلَكنَّهُ مُسْتَعِدٌ أنْ يُسَايِرَ الفِكْرَةَ مُؤقَّتاً لِكَي يَصِلَ إلى السُّلْطَةِ، ثُمَّ يُمَارِسُ في سُلطَتِهِ أُسْلُوبَاً غَيرَ دِيمقراطِيٍّ يَتَخَلَّصُ مِنْ الدِّيمقراطيَّةِ تَمَاماً مِنْ خِلالِهَا، فَتُصْبِحُ الدِّيمقراطِيَّةُ وَسِيلَةً وَلَيسَتْ غَايَةً، وَسِلاحَاً ولَيْسَتْ سِلْمَاً، وقَمْعَاً ولَيْسَتْ حُرِّيَةً.
وهذا مَوضُوعٌ طَوِيلٌ ومُعَقَّدٌ، وَلَكِنْ لا شَكَّ أنَّ عَامَّةَ المُسْلِمينَ وحَتَّى كَثِيرَاً مِنَ العُلَمَاءِ يَحْتَاجُونَ لِمَزيدٍ مِنَ التَّوضِيحِ والتَّفْصِيلِ لِلقَضَايا المُتَعَلِّقَةِ بِهَذا المَوضُوعِ المُهِمِّ، لأنَّهُ - شِئْنَا أمْ أبَيْنَا - مُعْظَمُ المُسْلِمِينَ وحَتَّى المُلْتَزِمينَ بِالدِّينِ أصْبَحُوا يُؤْمِنُونَ بِالدِّيمقراطيَّةِ كَنِظَامٍ سِيَاسِيٍّ.
فَدَعُونِي أسْألُ هُنا: في الحُكْمِ الإسْلامِيِّ هَلِ الشَّرِيعَةُ مَصْدَرُ السُّلُطَاتِ، أوْ الشَّعْبُ، أوْ دُسْتُورٍ مَا، أوِ الإجْمَاعُ؟ وهَلْ حُقُوقُ الإنْسَانِ في المَفْهُومِ الدِّيمقراطِيِّ تَتَنَاسَبُ مَعَ حُقُوقِ النَّاسِ وَمَقَاصِدِ الشَّريعَةِ في الإسْلام، ومَاذَا عَنْ حُقُوقِ التَّعْبيرِ (ومِنْها في الدِّيمقراطِيَّةِ «حَقُّ» إهَانَةِ شَعَائِرِ اللهِ تَعَالى) وحُقُوقِ الحُرِّيَّةِ الجِنْسِيَّةِ، إنْ كانَتَا نَفْسَ الشَّيءِ، على سَبِيلِ المِثَالِ ... ؟.
وقَدْ سَمِعْتُ أحَدَ العُلَمَاءِ يَقُولُ: «إنَّه لا مُشْكِلَةَ إذا بَقِيَ سَقْفُ الدِّيمقراطيَّةِ الإسْلامُ»، ولَكنْ مَاذَا عَنْ الحُقُوقِ التي يَمْنَحُهَا الإسْلامُ والمَرْفُوضَةُ في الدِّيمقراطيَّةِ – على سَبِيلِ المِثَالِ – تَعَدُّدُ الزَّوجَاتِ أوِ سَفَرُ المُسْلِمينَ الحُرُّ في أرْضِ اللهِ الوَاسِعَةِ ؟ وعلى أيَّةِ حَالٍ فَإنَّ حُقُوقَ النَّاسِ في الإسْلامِ هِبَةٌ مِنَ اللهِ سُبحانَهُ وتَعَالى لا يَحِقُّ لأيِّ انْتِخَابَاتٍ أوْ أيِّ قَاضٍ أو أيِّ مَحْكَمَةٍ أوْ أيِّ تَشْريعٍ أوْ أيِّ دَولةٍ أوْ أيِّ دُسْتورٍ أنْ يُنْقِصَ مِنْهُ، يقولُ اللهُ سبحانَهُ وتعالى: « يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك». (التحريم،66 :1).
وهُنَا نَأتي إلى المَوْضُوعِ الكَبِيرِ الذي أعْتَقِدُ أنَّهُ لَوْ تَمَّ حَلُّ عُقْدَتِهِ كانَ يُمْكِنُ لنا كَأُمَّةٍ أنْ نَتَجَنَّبَ نِصْفَ مَشاكِلَ آخِرِ ثَلاثِ سَنَواتٍ، وهُوَ مَوْضُوعُ الأكْثَريَّةِ والإجْمَاعِ، والفَرْقُ بَيْنَهُما. فَإنَّ اللهَ سُبْحانهُ وتَعَالى في القُرْآنِ الكَرِيمِ - وكَذَلِكَ في السُّنَّةِ النَّبويَّةِ الشَّرِيفَةِ - نَصَّ على أنَّ أكْثَرِيَّةِ النَّاسِ (والدِّيمقراطيَّةُ مَبْنِيَّةٌ على أَكْثَريَّةِ النَّاسِ وَلَيْسَ المُسْلِمِينَ) لَيْسَتْ مَبْدَأً يُؤَدِّي إلى التَّشْرِيعِ أو يَدُلُّ على الحَقِّ،وإذَا تَأمَّلْنَا في القُرْآنِ الكَرِيمِ فَإنَّنا نَجِدُ أنَّه كُلَّمَا وَرَدتْ كَلِمةُ «أَكْثَرَ» أوْ «أكْثَرَ النَّاس» يَلِيهِمَا أَمْرٌ سَيِّئٌ. يقولُ اللهُ تعالى: « ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين» (يوسف،12 :103) «ولكن أكثر الناس لا يشكرون» (البقرة،2 :243) «ولكن أكثرهم لا يعلمون» (الأنعام،6 :37) «ولكن أكثرهم يجهلون» (الأنعام،6 :111) «ولكن أكثر الناس لا يؤمنون» (هود،11 ،17) «ولكن أكثركم للحق كارهون» (الزخرف،43 :78) «كان أكثرهم مشركين» (الروم،30 :42) وكَذَلِكَ آياتٌ أُخْرَى عِدَّةٌ.
وإضَافَةً إلى ذَلِكَ كُلِّهِ فَإنَّ اللهَ تَعَالى أَوْضَحَ هَذَا الأمْرَ بِقَولِهِ سُبْحانَهُ:»وإن تطع اكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون» (الأنعام،6 :116).
وأيْضَاً بِقَولِهِ تعالى:»ولو اتبع الحق أهوآءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ...» (المؤمنون،23 :71).
وكَذَلِكَ لا نَجِدُ في السُّنةِ الشَّرِيفَةِ أنَّ الرَّسُولَ اسْتَشَارَ أغْلَبِيَّةَ المُسْلِمِينَ بِشَكْلٍ عَامٍّ وأَخَذَ بِرَأيِهِم، لَكِنْ مَرَّةً واحِدَةً اسْتَشَارَ رَسُولُ اللهِ المُقَاتِلِينَ وأبْدَى أغْلَبيَّتُهُمْ رَأيَاً مُخْطِئاً في الخُرُوجِ إلى أُحُد، ثُمَّ غَيَّروا رَأيَهُمْ بَعْدَمَا لَبِسَ الرَّسُولُ لِبَاسَ الحَرْبِ، ومَا أخَذَ بِرَأيِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَة، ورَأيُهُمْ هَذَا أدَّى إلى خَسَارَةِ المَعْرَكَةِ، «وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور»(آل عمران،3 :154).
وَلِهَذا، فَخِلالُ أوَّلِ 1300 سَنَةٍ مِنَ التَّارِيخِ الإسْلامِيِّ لم يُوجَدْ أحَدٌ مِنَ العُلَمَاءِ فِيمَا نَعْلَمُ اقْتَرحَ مَوْضُوعَ الأكْثَريَّةِ السِّياسِيَّةِ كَمِعْيَارٍ لِلحُكْمِ بِمَحَلِّ الإجْمَاعِ.
وأمَّا في أُمُورِ الحُكْمِ، فَالرَّسُولُ كانَ يَسْمَعُ رَأْيَ كِبَارِ الصَّحَابة، ولم يَكُنْ بِطَبِيعَةِ الحَالِ مُلزَمٌ بِرَأيهِمْ، فَكَانَتِ الشُّورَى مُعْلِمَةً غَيْرَ مُلْزِمَةٍ، يقولُ اللهُ تعالى: «وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله « (آل عمران،3 :159) ، أيْ: فَإذَا عَزَمْتَ أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ وَلمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ وتَعَالى «فإذَا عَزَمْتُمْ».
فَهَذَا تطبيقٌ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالى:»وأمرهم شورى بينهم»(الشورى،42 :38)، مِثْلَ أَمْرِ قَادَةِ جَيْشِ بَلْقيسَ حِيْنَمَا قَالُوا (كَمَا جَاءَ في القُرْآنِ الكَريمِ):»نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين» (النمل،27 :33). فَكَانَ أمْرُ المُسْلِمينَ بِالشُّورَى دَائِمَاً، لكنْ بِالإجْمَاعِ وَلَيسَ بِأغْلَبِيَّةِ (51%). وقَدْ فَصَّلَ رَسُولُ اللهِ هَذَا المَوضُوعَ في قَولِهِ: ((لا يَجْمَعُ اللهُ أمَّتي على الضَّلالةِ أبَدَاً، واتَّبِعوا السَّوادَ الأعْظَم، فإنَّه مَنْ شَذَّ شَذَّ في النَّارِ )) .
وَالإجْمَاعُ هُوَ قَاعِدَةُ الرُّكْنَيْنِ الأسَاسِيَّيْنِ لأيِّ نِظَامٍ شَرْعيِّ في الإسْلامِ، وَهُمَا: البَيْعَةُ والشّورَى،وحَتَّى في الغَرْبِ في الأنْظِمَةِ الدِّيمقراطيَّةِ فَإنَّ الدَّوْلَةَ تُقَامُ وتَنْشَأُ بالإجْمَاعِ ثُمَّ تَتَبَدَّلُ الحُكُومَاتُ والحُكْمُ بالأغْلَبِيَّة، وهَذِهِ النُّقْطَةُ مُهِمَّةٌ يَجِبُ اسْتِيعابُهَا، فإنْ كَانَ مَعْنى «الدِّيمقراطِيَّةِ» لُغَوِيَّاً (في اليوناني القديم) «حُكْمُ الكَثْرَةِ»(demo-cratia) فَالبَحْثُ عَنِ الإجْمَاعِ الأسَاسِيِّ يُسَمَّى في الغَربِ «ثَقَافَةُ الدِّيمقراطِيَّةِ»(democratic culture). فَلا يُوجَدُ دَوْلَةٌ غَرْبِيَّةٌ دِيمقراطِيَّةٌ فيها أكْثَرُ مِنْ 10% مِنَ النَّاسِ غَيرُ رَاضِينَ عَنْ نِظَامِهِمُ الدِّيمقراطيِّ، فَبِمَعْنَى آخَرَ هُنَاكَ إجْمَاعٌ على الدِّيمقراطِيَّةِ بِأكْثَرَ مِنْ 90% ، فَالرَّأيُ الشَّاذُّ بَسِيطٌ. لَكِنْ في الدُّوَلِ العَرَبِيةِ – وهَذَا أمْرٌ عَجِيبٌ، اسْتَغْرَبْتُ مِنْهُ مُنْذُ وَضْعِ الدُّسْتُورِ العِرَاقيِّ الجَدِيدِ - فَإنَّ الدَّسَاتيرَ تُوضَعُ بِأغْلَبِيَّةٍ وأحْيَانَاً لَيْسَتْ بِأغْلَبِيَّةِ الشَّعْبِ، بَلْ بِأغْلَبيةِ المُصَوِّتِينَ في يَوْمٍ مَا، فَهَذَا الوَضْعُ أدَّى إلى أنْ تَشْعُرَ أجْزَاءٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الشُّعوبِ بأنَّهُ لا دَوْرَ لها، ولا رَأيَ لها، ولا حُصَّةَ لها في دَوْلَتِهِم، وبِالتَّالِي فَهُمْ غَيْرُ مُلزَمِينَ في حُقُوقِ وَوَاجِبَاتِ الدَّوْلَةِ، وَمِنْ ثَمَّ إلى الخُرُوجِ وإلى الفِتْنَةِ.
فَأسْألُ نَفْسِي لمَاذَا لم يَكْتُبْ صَحَفِيٌّ وَاحِدٌ مِنَ الدُّولِ الغَرْبِيَّةِ أنَّ كُلَّ دُسْتُورٍ جَدِيدٍ يَجِبُ أنْ يَكُونَ عَلِيهِ إجْمَاعٌ كَامِلٌ ولَيْسَتْ أغْلَبيةً بأكْثَريَّةِ المُصَوِّتِيْنَ، لِكَي لا تَتَشَقَّقَ الدّولَةُ وتَتَمَزَّقَ ويُصْبِحَ فيها صِرَاعٌ دَاخِلِيٌّ وانْقِسَامٌ؟ ومِنَ المَنْطِقِ أنَّهُ مِنْ غَيرِ المُمْكِنِ أنْ تَقُومَ دَوْلةٌ وتَزدَهِرَ وثُلُثُ شَعْبِها غَيرُ رَاضٍ عَلَى نَهْجِ تَكْوينِهَا، على سَبِيلِ المِثَالِ. ولَو كَانَ إجْمَاعٌ في مِصْرَ وإجْمَاعٌ في العِرَاقِ وإجْمَاعٌ في سُورْيَا أصْلاً مِنَ الأسَاسِ بَينَ جَمِيعِ الأطْرَافِ الشَّعْبيَّةِ مَا وَصَلْنَا إلى مَا وَصَلْنَا إلَيْهِ. فَاعْتَقِدُ أنَّ عَلَى العُلَمَاءِ دَوْرَاً في حَلِّ هَذِهِ المُشْكِلَةِ الفِكْرِيَّةِ، وَهِيَ: «مَا هُوَ السَّوَادُ الأعْظَمُ»؟ هَلْ هُوَ 51% مِنَ العُلَماءِ – أيْ أهْلُ الحَلِّ والعَقْدِ أوْ أهْلُ الذِّكْرِ - يقولُ اللهُ تَعَالى: «فأسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» (النحل،16 :43) و(الأنبياء،21 :7)؟ فَالصَّوابُ في الإسْلامِ مَبْنِيٌّ عَلَى الحَقِيقَةِ – كَمَا عَبَّرَ عَنهُ أفلاطونُ في حِوَارِهِ (لاتشس) - ولَيسَ عَلَى عَدَدِ حَامِلِي الرَّأيِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالى: «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب» (الزمر،39 :9) ولَكِنْ هَلْ لَنَا أنْ نَعْتَبِرَ عَامَّةَ النَّاسِ عُلَمَاءَ في السِّياسَةِ في أيَّامِنَا هَذِهِ؟ أوْ هَلْ «السَّوادُ الأعْظَمُ» هُوَ 51% مِنَ النَّاسِ أوْ مِنَ المُنْتَخِبِينَ؟ أوِ الثُّلُثينِ مِنَ النَّاسِ؟ أو 75% مِنَ النَّاسِ؟ أوْ كَمَا اجْتَهَدَ سَيِّدُنَا عُمَرُ ، حَيْثُ جَعَلَ التَّرْجِيحَ لِلخِلافَةِ لِخَمْسَةٍ مِنْ سِتّةٍ مِنْ أصْحَابِ الأمْرِ؟، أيْ بِـنِسْبةِ 90% تَقْرِيبَاً . ويَنْبَغِي هُنَا أنْ نَتَذَكَّرَ أنَّهً قَدْ يَحْصُلُ في جَوٍّ غَوغَائيٍّ مَا، انْتِخَابُ دِيكْتَاتُوريينَ وَمُجْرِمِينَ مِنْ قِبَلِ الفِئَةِ الأكْبَرِ مِنَ المُنْتَخِبِينَ أوْ مِنَ الأغْلَبيَّةِ لأسْبَابٍ طَائِفِيَّةٍ: فَهِتْلَرُ انْتُخِبَ في عَامِ 1932م في ألمانيا، وانتُخِبَ مُوسيليني في إيطاليَا، وفرانكو في إسبانيا، وميلوسفتش في صِرْبيا، وكارديتش في البوسْنَه، وجَمِيعُهُمْ انْتُخِبُوا غَوْغَائِيَّاً مِنْ قِبَلِ فِئَةٍ مِنَ النَّاسِ لِنِيّةِ قَمْعِ فِئَاتٍ أُخْرَى، وهَذَا أمْرٌ قَدِيمٌ ومَعْرُوفٌ وهُوَ مَا يُحَذِّرُ مِنْهُ أفْلاطُونُ في الفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ كِتَابِهِ «الجمهورية»، وهيرودتس (أوَّلُ مُؤَرِّخٍ في العَالَمِ) في الفَصْلِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ «التَّوَارِيخُ» قَبْلَ أكثرِ من أَلْفَينِ وخَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، فَهَلْ يَسْمَحُ الإسْلامُ بِذَلِكَ؟ فَمَا هُوَ المَانِعُ مِنَ «الاجْتِمَاعِ حَتَّى الإجْمَاعٍ»، أوْ اجْتِمَاعَاتٍ طَوِيْلَةٍ تَسْتَغْرِقُ سَنَوَاتٍ تُؤَدِّي إلى التَّوَافِقِ؟ في جَنُوبِ أفْرِيقْيَا الحَدِيثِ ـ مَثَلاً ـ بَعْدَ انْهِيَارِ نِظَامِ (ابارتايت) جَلَسَ النَّاسُ ثَلاثَ سَنَوَاتٍ إلى أنْ اتَّفَقُوا عَلَى الدُّسْتُورِ الجَدِيدِ، أعْطَى فِيهِ الكُّلُّ شَيْئَاً وَأَخَذَ شَيْئَاً، حَتَّى صَارَتِ الثِّقَةُ مُتَبادَلَةً بَينَ جَمِيعِ الأطْرَافِ بِالرَّغْمِ مِنْ مَشَاكِلِهِمُ الأُخْرَى. لَكِنَّنَا في العَالَمِ العَرَبيِّ هَرْوَلْنَا إلى مَكَاسِبَ لِفِئَاتٍ وَجَهِلْنَا نَتَائِجَ إقْصَاءِ فِئَاتٍ مِنْ شُعُوبِنَا إلى أنْ وَصَلْنَا إلى البَغْضَاءِ وثُمَّ إلى الفِتْنَةِ، فَأتمنَّى أنْ تَكُونَ إحْدَى نَتَائِجِ هَذَا المُؤْتَمَرِ أنْ يَخْرُجَ العُلَمَاءُ بِتَحْدِيدِ نِسْبَةِ «السّوَادِ الأعْظَمِ» التي يَقَعُ عَلَيْهَا الإجْمَاعُ - وأَقْصِدُ هُنَا بالطَّبعِ الإجْمَاعَ السِّيَاسِيَّ ولَيْسَ الإجْمَاعَ العِلْمِيَّ. فَالإمَامُ الشَّافِعِيُّ قَرَأَ القُرْآنَ الكَرِيمَ سِتَّةً وثَلاثِينَ مَرِّةً - وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ثَلاثَمِائَةِ مَرَّةً - بَاحِثَاً عَنْ دَلِيلِ الإجْمَاعِ في القُرْآنِ الكَرِيمِ الَّذِي قَالَ عَنْهُ سُبْحَانَهُ: «وكل شيء فصلناه تفصيلا» (الإسراء،17 :12) - حَتَّى وَجَدَهُ في الآيةِ الكريمَةِ: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا»(النساء،4 :115). فَعَلَى العُلَمَاءِ أنْ يَقْتَدُوا بِهِ ويَبْحَثُوا عَنْ نِسْبَةِ «السَّوَادِ الأعْظَمِ»، وَيَجْعَلوا لِلأُمَّةِ مَخْرَجَاً مِنَ الفُرقَةِ بَينَ أبْنَاءِ الدِّينِ الوَاحِدِ أوِ البَلَدِ الوَاحِدِ. يَقُولُ اللهُ تَعَالى:
«واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم أياته لعلكم تهتدون» (آل عمران،3 :103).
3. الحُكْمُ المَلَكِيُّ في الإسْلامِ: أمَّا بِالنِّسْبةِ لِلمَسْألَةِ الثَّالِثَةِ وَهِيَ مَوضُوعُ الحُكْمِ المَلَكيِّ في الإسْلامِ، ومَوْقِفُ الإسْلامِ مِنْهُ، فَهَذَا مَوضُوعٌ يَحْتَاجُ أيْضَاً إلى بَحْثٍ عَمِيقٍ، لأنَّهُ بالرَّغْمِ ممَّا يَظُنُّهُ بَعْضُ المُعَاصِرينَ فَانَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالى هُوَ المَلِكُ الحَقُّ، ومَالِكُ المُلْكِ، وبِيَدِهِ المُلْكُ، ويُؤْتِي المُلْكَ لِمَنْ يَشَاءُ. يَقُولُ اللهُ تعالى: «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير» (آل عمران،3 :26).
وَقَدْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ وتَعَالى بَعْضَ رُسُلِهِ مُلُوكَاً مِثْلَ: سَيِّدِنَا دَوادَ وسَيِّدِنَا سُلَيمَانَ عَلَيهِمَا السَّلامُ؛ وجَعَلَ المَلَكِيَّةَ كَجَوَابٍ لِدُعاءِ نَبيِّهِ (سَاموالُ) حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالى: «ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ...» (البقرة،2 :246).
وأنَّهُ جَعَلَ النَّبيَّ يُوسُفَ يَعْمَلُ بأمْرٍ مِنْ مَلِكٍ. وقَدْ ذُكِرَ لَفْظُ «المَلِكِ» في القُرْانِ الكَرِيمِ في غَيرِ مَعْرِضِ الذَّمِّ، بَيْنَمَا ذُكِرَ اسْمُ المُلُوكِ الفَجَرةِ في مِصْرَ في القُرْآنِ الكَرِيمِ بِلَفْظِ «فِرْعَونُ»؛ وَقَدْ ثَبَّتَ الرَّسُولُ مُلْكَ جَمِيعَ المُلُوكِ الذِينَ أسْلَمُوا؛ وبَعَثَ المُسْلِمِينَ إلى مَا سَمَّاهُ «مَلِكَاً صَالِحَاً» في الحَبَشَةِ ؛ وأنَّهُ بَشَّرَ قُرَيْشَاً بالمُلْكِ إلى يَومِ الدِّيْنِ ؛ وأنَّ الخُلَفاءَ الرَّاشِدِينَ جَمِيْعَهُمْ كَانُوا أقْرِبَاؤُهُ وأنْسِباؤُهُ مِنْ قُرَيشٍ لِكَونِهِ لم يِكُنْ لَدَيْهِ أبْنَاءٌ أوْ إخْوَةٌ أوْ أوْلادُ إخْوَةٍ؛ وَكَانَتْ الدُّوَلُ الإسْلامِيَّةُ عَبْرَ التَّارِيخِ الإسْلاميِّ كُلِّهِ - إلى سُقُوطِ الخِلافَةِ الإسْلاميَّةِ العُثْمانيَّةِ في عَامِ 1922م - أنْظِمَةً مَلَكِيَّة، وكَثِيرٌ مِنْ أبْطَالِ الإسْلامِ كَانُوا مُلُوكَاً وأُمَرَاءَ مِثْلَ: عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ الدَّاخِلِ، ونُورُ الدِّينِ زِنْكِي، وصَلاحُ الدِّينِ الأيُّوبِيُّ، والظَّاهِرُ بيْبَرْس، وحَتَّى الأمِيرِ عَبْدِ القَادِرِ الجَزَائِريِّ، وَهَلُمَّ جَرّا.
لكِنَّ السُّؤالَ الذِي يَطْرَحُ نَفْسَهُ: مَا هِيَ وَاجِبَاتُ وَصَلاحِيَّاتُ المَلِكِ في القُرْآنِ الكَرِيمِ؟ نَجِدُ أنَّ الوَاجِبَاتِ والصَّلاحِيَّاتِ الأسَاسِيَّةِ لِلمَلِكِ في القُرانِ الكَرِيمِ هيَ: قِيَادَةُ الجُيُوشِ وَوَحْدَةُ النَّاس، يقولُ اللهُ تعالى:»»ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ...» (البقرة،2 :246) . وَكَذَلِكَ وَاجِبُ المَلِكِ حِمَايَةُ شَعَائِرِ اللهِ سُبْحانَهُ وتَعَالى. قالَ اللهُ تعالى: «وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لأية لكم إن كنتم مؤمنين» (البقرة،2 :148). فَهَلْ نَعْتَبِرُ صَلاحِيَّاتِ سَيِّدِنَا سُلَيمَانَ - فِيمَا يُسَمَّى السِّيَاسَةُ الخَارِجِيَّةُ في سُورَةِ النَّمْلِ- مِنْ نُبُوَّتِهِ أمْ مِنْ مُلْكِهِ؟ وهَلْ نَعتبرُ قِيَامَ سَيِّدِنَا دَاودَ عَلَى العَدْلِ في سُورَةِ «ص» مِنَ النُّبُوَّةِ أمْ مِنَ المُلْكِ؟ وسُؤَالٌ مُهِمٌ في يَوْمِنَا هَذَا: هَلْ نَعْتَبِرُ نِيَابَةَ سَيِّدِنَا يُوسَفَ لِمَلِكِ مِصْرَ بِصَلاحِيَّاتِهِ نَمُوذَجَاً لِمَا يُسَمَّى اليَومَ «الحُكْمُ المَلَكِيُّ الدُّسْتوري»؟ فَسُبْحانَ الذي قالَ: «وكل شيء فصلناه تفصيلا»(الإسراء،17 :12).
أمَّا بِالنِّسْبَةِ لِقَولِ اللهِ تَعَالى: « قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة وكذلك يفعلون» (النمل،27 :34)، فَهَذِهِ سُنَّةٌ كَوْنِيَّةٌ ولَيْسَتْ ذَمَّاً، بِدَلِيلِ أنَّ القَائِلَةَ (وهِيَ بَلْقِيسُ) مَلِكَةٌ، وبِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالى عَنْ سيَّدِنَا سُلَيْمَانَ (وهوَ المَلِكُ المَقْصُودُ في هَذِهِ الآيةِ): «نعم العبد» (ص،38 :30)، واللهُ أعْلَم.
4. الرَّأسْمَالِيَّةُ والاسْتِهْلاكِيَّةُ: المَسْالَةُ الرَّابِعَةُ وهِيَ المَسْألَةُ التي يَقَعُ فِيهَا الاحْتِيَالُ الأكْبَرُ هُوَ أنَّ الدِّيمقراطيَّةَ الحَدِيثَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الفِكْرِ والاقْتِصَادِ الرَّأسْمَالِي، وبِالَّتالِي الاسْتِهْلاكِيِّ. لَكِنْ، وكَمَا ذَكَرْنَا في مُؤْتمَرِنَا السَّابِقِ عَنِ البِيْئَةِ، أنَّنَا أصْبَحْنَا في أَزْمَةِ شُحِّ مَوَارِدِ الأرْضِ، فَلَمْ تَعُدْ تَتَحَمَّلْ أو تَكْفِي أرْضُنَا ولا ماؤُنَا ولا هَوَاؤُنَا ولا نَبَاتُنَا ولا شَجَرُنَا ولا سَمَكُنا وَلا بَهَائِمُنا ولا مَنَاخُنَا لِمَزِيدٍ مِنَ الاسْتِهْلاكِ. فَهُنَا نُقْطَةٌ جَوْهَرِيَّةٌ، وهِيَ أنَّ مُعَدَّلَ الاسْتِهْلاكِ الكَرْبُونيِّ لِكُلِّ شَخْصٍ في الدُّوَلِ المتقدِّمَةِ الدِّيمقراطيَّةِ ثَمَانيةٌ وثَلاثُونَ ضِعْفَ المُسْتَهْلِكِ المُسْلِمِ المُتَوَسِّطِ الدَّخْلِ والفَقِيرِ في الدُّوَلِ الإسْلامِيَّةِ. فإذَا أصْبَحَ المِلْيَارُ مِنَ المُسْلِمِينَ مُسْتَهْلِكِينَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الدِّيمقراطِيَّةِ الغَرْبيَّةِ فَهَذَا يَزِيدُ اسْتِهْلاكَ الأرْضِ الكَرْبونيِّ العَالَمِيِّ خَمْسَةَ أضْعَافٍ على مَا هوَ عَلَيهِ اليَوْمَ. وفي هَذِهِ الحَالَةِ سَتَتَكَالَبُ عَلينَا الأمَمُ جَمِيعَاً فَقَطْ مِنْ أجْلِ البَقَاءِ عَلَى الأرْضِ، لأنَّهُ في هَذِهِ الحَالَةِ لا تَكْفِي مَوَارِدُ الأرْضِ لِلْبَشَرِيَّة،فَكَيفَ يُشَجِّعونَنَا عَلَى الدِّيمقراطِيَّةِ الاسْتِهلاكِيَّةِ؟ وأيْنَ الفِكْرُ الإسْلامِيُّ الذي سَيَقُودُنَا إلى الازْدِهَارِ بِدُونِ اسْتِهْلاكٍ مُدَمِّرٍ؟ يقولُ اللهُ تَعَالى: «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون» (الروم،30 :41).
وأخِيرَاً أقُولُ إنَّ هَذِهِ الأمُورَ جَمِيعَهَا أسْئِلَةٌ، ولا أدَّعِي أنَّ عِنْدِي حُلُولاً فِيْهَا، لَكِنْ لَدَيَّ يَقِينَاً أنَّ كُلَّ حَلٍّ لأيِّ قَضِيةٍ فِكْريةٍ أو فَلْسَفيَّةٍ مَوجُودٌ في القُرْانٍ الكَرِيمِ، لأنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالى يَقُولُ عَنْ كِتَابِهِ العَزِيزِ: «ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء» (النحل،89 :16)؛ ويَقُولُ سُبْحَانَهُ:» وتفصيل كل شيء « (يوسف،111:12)؛ ويَقُولُ سُبْحَانَهُ: «ما فرطنا في الكتاب من شيء»(الأنعام،6 :38). فَأَدْعُو نَفْسِي والعُلَمَاءَ إلى أنْ يَنْهَلُوا فِكْرِيَّاً مِنْ مَائِدَةِ اللهِ تَعَالى وَهُوَ القُرْآنُ الكَرِيمُ. يَقُولُ اللهُ تَعَالى: « لكن الله يشهد بمآ أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا» (النساء،4 :166) وَوَفَّقَكُمُ اللهُ تَعَالى جَمِيعَاً.
والسَّلامُ عَلَيكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ
ويشارك في المؤتمر نحو مائة عالم من أعضاء المؤسسة يمثلون مؤسسات إسلامية من جميع المذاهب والمدارس والاتجاهات الفكرية الإسلامية من 33 دولة عربية وإسلامية وأجنبية.
ويناقش المشاركون 34 بحثاً علمياً تتوزَّع على عدّة محاور تتناول مفاهيم الدولة والحكم والعقد الاجتماعي والمجتمع المدني وحقوق الناس في الفكر الإسلامي وفي الفكر الغربي، والمقارنة والمقاربة فيما بينهما، ومشروع دولة إسلامية حديثة قابلة للاستمرار ومستدامة.