د . سمير محمود قديح
باحث في الشئون الأمنية والإستراتيجية
بين الحين و الأخر نسمع عن إشاعات تبث و تنشر و أكاذيب تبعث و ترسل. هذه الإشاعات التي لها خطر عظيم و شر كبير.
فكم دمرت من مجتمعات و هدمت من أسر، و فرقت بين أحبة؟
كم أهدرت من أموال، و ضيعت من أوقات؟
كم أحزنت من قلوب، و أولعت من أفئدة، و أورثت من حسرة ؟
و إذا أردت أن تعلم عظيم شرها، فانظر في حادثة الإفك: كيف أن النبي صلى الله عليه و سلم مكث شهرا كاملا وهو مهموم محزون، لا وحي ينزل يبين له حقيقة الأمر، و لا يعرف عن أهل بيته إلا الطهر و العفاف.
يقول المتنبي:
هم نسبوا عني الذي لم أفُه به
وما آفة الأخبار إلا رواتها
من إحدى المشكلات التي يُعاني منها المجتمع الإنساني والتي من الصعب جداً قمع جماحها وإزالتها هي الإشاعات الكاذبة والترويج لها. فالإشاعة هي إطلاق العنان للكلمات الملفقة والكاذبة وتكوين القصص والأخبار والروايات عند سماع كلمة عابرة أو استراق السمع على متحدث. وسموم كلماته القاتلة وبالكاد يلتقط هذا المتجسس وصاحب الغرض هذه الكلمة حتى يرخي العنان لحبل أفكاره من دين أو ضمير فينسج القصص والحكايات الطوال دون الالتفات لخلق أو وازع من دين. وكلنا نعلم ما للإشاعة من أضرار على الفرد والأسرة والمجتمع ومن هدر للأموال والأوقات، وللأسف معظم الفئات تتداول الإشاعات سواء كان على مستوى الأفراد أم الأسر أم المجتمع، وكم من صداقة أفسدتها وعداوات أجّجتها وحروب أشعلتها ومحبة كدّرتها، وكم من بيت هدمته وكم من جماعة بدّدتها.. فالإشاعة تُشكّل خطراً كبيراً على الجميع على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولكي نساهم ولو بجزء قليل فبتوعية مجتمعنا حول التعامل مع ما يروّجه ضعاف النفوس والاعداء بين الفينة والأخرى. فمجتمعنا مليء بالظواهر الاجتماعية التي تستحق منا التأمل والدراسة والعلاج الناجع لما لها من أثر بالغ على مسار الحياة الطبيعية للعديد من الشرائح الاجتماعية.. ومن بين هذه الظواهر التي وجدت منبتاً خصباً للتغلغل في مجتمعنا مع الأسف الشديد نجد ظاهرة الإشاعة.. فما هي إذن؟.. بكل بساطة هي إذاعة خبر كاذب بين الأوساط الشعبية دون الوثوق من صحته، لقد قيل الكثير عن الإشاعة وهذه بعضها: الإشاعة هي كل خبر مقدم للتصديق يتناقل من شخص لآخر، دون أن يكون له معايير أكيدة للصدق، فهي بث خبر كاذب من مصدر ما في ظروف معينة ولهدف يريده المصدر دون علم الآخرين. وهي الأحاديث والأقوال والأخبار والقصص التي يتناقلها الناس الكاذبة، دون إمكانية التحقق من صحتها. فالإشاعات تنتقل وتنتشر كلما ازداد الغموض ونقصت المعلومات حول الأخبار التي تنشرها هذه الإشاعات، فالإشاعة هي عملية نشر الأخبار والمعلومات الكاذبة، ونتائج هذه العملية. وهي تنطلق بسهولة وسرعة عندما تكون الظروف ملائمة لما تتضمنه من أخبار. وهناك مصدر الإشاعة وهو الذي يقوم ببنائها وتشكيلها ويبدأ في نشرها، سواء أكان فرداً أم جماعة، وهناك متلقي الإشاعة، وناشر الإشاعة. والشرط الأساسي لانتشار الإشاعة انعدام معرفة الحقيقة، ورغبة المتلقي في المعرفة. ووجود دافع وفائدة لمطلق الإشاعة لنشرها. كل خبر يشكّك به يمكن أن يصبح أو يتحوّل إلى إشاعة، وبغض النظر عن أنه صادق وصحيح أم كاذب وملفق. وكذلك كافة الإعلانات هي بمثابة أخبار عن منتجات وسلع وأسهم شركات هدفها دفع الناس لشرائها، وهي تستخدم آلاف الطرق في نشر مميزات السلع والأسهم (أكانت صحيحة أم كاذبة) بهدف الترويج لبيعها. لقد عالج الإسلام قضية الإشاعة عن طريق ثلاث نقاط: - التثبت. - الناقل للإشاعة الكاذبة من الفاسقين. - التفكُّر في عواقب الإشاعة وأضرارها على الأفراد والأسر والمجتمعات. أ - التثبت: يقول الله تعالى: "يا أيُّها الّذين آمنُوا إن جاءكُم فاسقٌ بنبأ فتبيّنُوا" وفي قراءة أخرى (فتثبتوا). فأمر الله بالتبيّن والتثبّت، لأنه لا يحل للمسلم أن يبث خبراً دون أن يكون متأكداً من صحته. والتثبّت له طرق كثيرة؛ فمنها: إرجاع الأمر لأهل الاختصاص: يقول الله تعالى: "وإذا جاءهُم أمرٌ مّن الأمن أو الخوف أذاعُوا به ولو ردُّوهُ إلى الرّسُول وإلى أُولي الأمر منهُم لعلمهُ الّذين يستنبطُونهُ منهُم ولولا فضلُ اللّه عليكُم ورحمتُهُ لاتّبعتُمُ الشّيطان إلاّ قليلاً". فكم من إشاعة كان بالمكان تلافي شرها بسؤال أهل الاختصاص. ب - التفكُّر في محتوى الإشاعة: إنّ كثيراً من المسلمين لا يفكر في مضمون الإشاعة الذي قد يحمل في طياته كذب تلك الإشاعة، بل تراه يستسلم لها وينقاد لها وكأنها من المسلّمات. ولو أعطينا أنفسنا ولو للحظات في التفكر في تلك الإشاعات لما انتشرت إشاعة أبداً.
ج - الناقل للإشاعة من الفاسقين: يقول الله تعالى: "يا أيُّها الّذين آمنُوا إن جاءكُم فاسقٌ بنبأ فتبيّنُوا.." فجعل الله من نقل الخبر دون تثبّت من الفاسقين. فمجرد نقل الأخبار دون التأكد من صحتها موجب للفسق؛ وذلك لأن هذه الأخبار ليس كلها صحيحاً، بل فيها الصحيح والكاذب، فكان من نقل كل خبر وإشاعة كاذبة؛ داخل في نقل الكذب، لذا جعله الله من الفاسقين. وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ففي صحيح مسلم: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع). فالمؤمن لا بد له من الحذر والتثبت لكي لا يكون عند الله من الفاسقين (الكاذبين). وكفى - والله - بذلك كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب. فالعاقل يعلم أنه ليس كل ما يسمع يقال. ولا كل ما يعلم يصلح للإشاعة والنشر. بل قد يكون الخبر صحيحاً ولكن لا مصلحة في نشره أبداً، فعلينا جميعاً أفراداً وأسر وجماعات ومؤسسات أن نتفكر في عواقب الإشاعة، فعودة مرة أخرى للآية السابقة في سورة الحجرات يقول الله تعالى: "أن تُصيبُوا قومًا بجهالة فتُصبحُوا على ما فعلتُم نادمين". هل تفكّرت في نتائج الإشاعة؟ على الجهات المختصة مكافحة جرائم معلومات الانترنت الكاذبة ومتابعة وملاحقة الذين يشيعون الاشاعات الكاذبة ومطاردتهم قضائيا لاخذ التعويض المادي نتيجة الضرر الذي يصيب المتضرر من هذه الاشاعة ودفعه للمتضرر.
ونظراً لما قد يكون لوسائل الإعلام من قدرة -بحكم إمكاناتها الكبيرة- على ترويج الشائعات، فانني اوجَّه تحذيراً بعدم الركون لهذه الشائعات أو تصديقها، ونتيجةً لتجاربي المتراكمة في مجال الإعلام وخبرتي المتواضعة في مجال البحث الامني أدرك تماماً أنَّ هناك صوراً باهتةً من الأكاذيب تنشرها بعض وسائل الإعلام دون أن تتحرَّى من مصداقيتها بدقَّة، وخاصَّةً ما قد يحدث من قِبَل بعض الصحف الإلكترونيَّة، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، مثل: "تويتر" و"فيس بوك، وغيرها.
ان العاطلين أو القابعين فوق الأرصفة هم أكثر فئات البشر إطلاقاً للشائعات؛ لأنَّهم لا يودون رؤية الجانب الرائع والجميل في الحياة، بل يشاهدون دائما الجوانب القبيحة وينسجون حولها خيوط التآمر. فالشائعات لا تصدر إلاَّ من نفوس مليئة بكميَّات كبيرة من الحقد والضغينة، ومن أُناس أخفقوا في حياتهم ولم تعد لديهم أيّ وسيلة للنجاح، و لا يُمكن لهؤلاء أن يرموا بحبالهم حول رقاب الآخرين، لأنَّ العديد من أفراد المجتمع باتوا على قدرٍ كبير من الوعي والعلم التام بمآربهم وأهدافهم التي يرغبون في تحقيقها، حيث يجب ضرورة الحذر منهم وقطع الطريق عليهم وإيقافهم وإفشال مُخططاتهم. فأصحاب القلوب المسكونة دوماً بالضغائن والأحقاد هم من يُروِّجون الشائعات من أجل تحقيق أغراضهم الدنيئة، و هؤلاء لن يُكتب لهم النجاح في تحقيق مايصبون إليه؛ لأنَّهم قِلَّةً لا قيمة لها.
هناك العديد من أصحاب الفكر غير السويّ في العديد من المجتمعات، هؤلاء يتعمَّدون إثارة الفتنة وفك الُلحمة بين أفراد مجتمعهم بترويجهم الشائعات والمعلومات المغلوطة، و القضاء عليهم يحتاج إلى صبر طويل وتوعية مُكثَّفة وإصدار قوانين صارمة تجاه ما قد يُقدمون عليه من أفعال، لذلك من الضرورة تنظيم حملات توعوية مستمرة من قِبل الدعاة والأئمة في المساجد والعلماء والمدارس والجامعات وبقيَّة العقلاء من أفراد المجتمع لتوجيه ضربة قاضية بحق كل من تُسوّل له نفسه ترويج هذه الشائعات.