(من وحي مقالة العزيز خالد المجالي "الشعب أَولى بالملايين" التي تُصرف على خدم وحرم الباشوات اصحاب الدولة،المعالي،العطوفة.مقالتنا من نسج الخيال،آثرنا موت الباشا حتى لا يكون لاحدٍ علينا حُجةُ في القضاء)
*** الباشا ! رجل مستقيم ومتزن، مهاب ومرهوب موضع ثقة الناس وخوفهم.هذا الطلاء الخارجي لشخصيته،بينما المظاهر الخارجية كذاّبّةٌ،خداعةْ على الدوام،حيث برع في حياكة الكذب،وتفصيل التهم على مقاس خصومه من دون روادع اخلاقية او دينية او انسانية .أُصيب الباشا فجأةً بعارض صحي اقعده البيت،و الزمه الفراش. تعاقب عليه الاطباء للكشف عن العلة،فاختلفوا في التشخيص.قال اولهم : انه يعاني من باصور متقيح، لذلك فهو بحاجة الى عملية عاجلة لاجتثاث الضيف الثقيل، فيما قال الثاني: الارجح انه ناسور مستتر،لذا يجب ان يخضع لعملية تنظير فورية.فالتنظير مسألة غاية في البساطة بالنسبة له حيث ان الطريق عنده سالكة، خاصة انه من انصار المدرسة الرواقية اليونانية التي تؤمن بمبدأ اللذة،خصوصاً بعد تقدم المناظير من كافة الاشكال و الا حجام.
*** الطبيب العجوز الذي حضر مؤخراً، وصف سابقيه الاطباء، بانهم مجرد حمير يحملون سماعات طبية. فالزائدة اللحمية التي تتدلى من الباشا، ما هي الا ورم خبيث.وبرغم اختلاف التشخيص، الا ان الالم هو الثابت الوحيد الذي يقض مضجعه، ويفسد ايامه، ويؤرق لياليه . ذات زيارة، حاول النهوض لاستقبال احد الباشاوات المتقاعدين مع ستة آخرين ممن احيلوا حديثاً على التقاعد كما تجري العادة سنوياً، لكن قواه خارت، ولم يسعفه جسده المتهالك، فطلب اليه كبيرهم ان يظل مبطوحا.عاد وتمدد مثل دودة شريطية.لم يتوقف الضيف العبقري عن الحديث في الفلك والهندسة والسياسة وعلم النفس واختتمها بالطب الحديث والبديل،فاخبره ان الكيماوي لا ينفعه.لذلك نصحه بالاعشاب وكثرة الاستغفار.فالباشوات يعرفون لغة بعض حتى بالصمت او بالاشارة فلكل يمتح من ذات البئر ويشرب بذات الطاسة.
** ادرك الباشا بعد هذه الزيارة ، ان نهايته ازفت، رغم تطمينات الاطباء، ومواساة الزوجة، ونفاق الزوار الذين يؤكدون انه ما زال عريساً لا ينقصه سوى فتاة طاغية الجمال حتى «تفكفك عظامه»، وتطلق طاقات شبابه من عقالها، ليعود «الباشا الى صباه» ويعيد سيرته الاولى. لكن هاجس الخوف ظل يطغى عليه، و الاحساس بالخطر يلازمه،فاوراق روزنامة عمره الاخيرة تتساقط بسرعة لافتة،والدلائل تشير الى ان عزرائيل قد حجز له تذكرة one way . والجناح الفاخر في المدينة الطبية صار يراه قبراً ،وباقات الورود التي تحمل اسماء مهمة وعبارات التمني بالشفاء ،تحولت الى كلمات تأبين، فيما السرير بات تابوتاً لا يستطيع مغادرته.
*** بعد فترة ،اصبح الباشا جثة تتنفس.عيون زائغة تدور في محجريها. فالنملة تستشعر المطر،وتختبئ في بيتها، والسمكة تحس بغريزتها بالاعاصير و صخب البحر فتلوذ بالاعماق طلبا للامان.. اما هو فاين المفر؟!. و اين يلوذ؟!. جسد محطم، وليس هناك من جحر يأويه،او ملاذ يحميه، بينما الموت يقف له خلف الباب !!. استعرض حياته بسرعة: طفولته، مراهقته، شبابه، زواج اخته الكبرى، وكيف بكى عند فراقها عندما رحلت مع زوجها الى بلد بعيد،فقد كانت هي الام التي ترعى شؤونه بعد وفاة والدته المبكرة. مرت ايامه امام عينيه بإيجاز كشريط اخبار متحرك على احدى الفضائيات،ثم جحظت عيناه عندما تخيل جنازته الرسمية وجموع المشيعين،تتحلق حول قبره، وكل واحد بانتظار انتهاء مراسم الدفن،وواهالة التراب عليه ،ليعود الى بيته على عجل.
*** رعدة قوية عصفت به، هزت كيانه. تمنى لحظتئذ لو انه لم يُخلق. هاجمته هلوسات سمعية كادت ان تخرق اذنه، تناهى الى مسامعه صوت الشيخ رمضان امام المسجد يقرأ فوق راسه : اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة ولا تجعله حفرة من حفر النار. فجأة طفا من قاع ذاكرته سجل حياته، ممارسته الوظيفية، علاقاته المعطوبة، إساءاته للناس، تآمره على زملائه، ظلمه للكثير،وافتراءه على خلق الله لاثبات كفاءته الوظيفية.. اقتنع ساعتها ان حياته كذبة كبيرة، وان لقب الباشاوية الذي استمات في الحصول عليه لا يساوي خردلة.فقد ازفت ساعة المحاكمة العادلة،وجاء وقت الحساب الالهي.فاليوم اعضاؤه ستشهد عليه،و طوابير المظلومين سيقفون في مواجهته.
*** هو الان في حوار داخلي داخل قفص الاتهام الذي صنعه لنفسه بيديه،ودخله بقدميه . تذكر احدى غزواته التي يرددها بعد الكاس العاشر مفتخراً امام ندمائه. شابة يافعة صغيرة، خريجة جامعة، في عينيها لمعة من الذكاء، ومظهرها يدل على فقر عفيف،لكنها تمتلك لمسات اناقة جذابة رغم بساطتها.وعندما سألته المساعدة تفجرت عاطفتها الجياشة متوسلة اليه باكية وظيفةً لانتشال اهلها من بؤس الفاقة .ورغم الحزن الطافح والدموع التي تطوف في عينيها،بدت صارخة الجمال، كزهرة تستحم بندى الصباح . وما ان رآها حتى تدلى لسانه، وتسارعت نبضات قلبه، وارتفع لهاثه، واخذ يلعق لعابه من اطراف فمه.
*** راودها على نفسها بكل ما أُوتي من خبث ودهاء. تمنعت وبكت بحرقة وغادرت مكتبه كسيرة الخاطر.إستدل على عنوانها وراح يلاحقها ويناورها.و اخيراً استطاع اغواءها تحت تأثير العوز، وسيل الهدايا. حاول الهرب من هذه الذكرى المحفورة في اعماقه، لكنه لم يفلح من لسعات الضمير، فاغمض عينيه، وراح يحدق في الفراغ.
** وبينما هو غارق في التحديق باللاشيْ، شعر بكابوس يصهر صدره، وهواء اسود يملأ رئتيه.حينها ادرك انه وصل خط النهاية، و صافرة الخاتمة تدوي في اذنه. جاهد بكل قوة ليصرخ لعله يبدد الصمت المرعب الذي يلفه، ويمزق ستار الظلام المخيم عليه،لكي يسمعه احدُ و يهب لنجدته، لكن من دون جدوى. وعندما عجز حاول رفع سبابته - للنطق بالشهادة - التي طالما هزها في وجوه الناس متوعدا. لكنها خذلته،فيما انفاسه تهبط شيئا فشيئا حتى انقطعت.
** اعتاد ابنه الاصغر كل صباح، الاطمئنان عليه، وطبع قبلة صباحية على جبينه قبل الخروج من المنزل. رفع الملاءة و انحنى كالعادة على جسد والده،فاحس ببرودة الموت تسري في الجسد الساكن، وبقايا دموع ندم متحجرة في عينيه الشاخصتين.اغلقهما بحنان وهو يرتل:« وجاءت سكرةُ الموتِ بالحقِ ذلك ما كنتَ عنه تحيد ».
** في اليوم التالي اقيم له سرادق عزاء ضخم، تقاطر عليه المعزون من اكابر القوم، جُلهم من المنافقين لرفع العتب، وتأدية الواجب. كان الجميع يتحدثون عن كل شيء، الفساد، التلوث، اخر الفضائح الاجتماعية،لدرجة ان بعضهم كانوا يتبادلون آخر النكات البذيئة همسا، ويتضاحكون سرا، بينما ـ الباشاـ المرحوم لم يحظ باي ذكر باستثناء كلمات العزاء المعلبة التي تُصرف عادةً - بالجملة - في بيوت العزاء: " البقية في حياتكم "."عظم الله اجركم". خاتمة الآحزان .. ولم يقطع ضجيج المعزين الا صوت الشيخ رمضان الجهوري مناشداً الحضور الدعاء للباشا بالثبات، وان يحل الله عقدة لسانه لانه يُسأل الان ويحاسب في قبره. اعقبه صوت شاب ترتسم على هيئته علامات الفقر والجسارة،بصوت عالٍ متوجهاً برسالة لاكابر القوم الذين يجلسون في صدر المجلس،ويبدو انه تعرض لمظلمةٍ قاتلة فإبتدأ بقوله تعالى: " فتلك بيوتهم خاويةُ بما ظلموا ان في ذلك لآية لقوم يعلمون".فالباشا ـ رحمه الله ـ رعى رعياً جائراً في زرع الدولة، وشفط ماءها.لذلك سيحبس في قبره كما اخبرنا الرسول عليه السلام حتى يعيد الورثة الاموال لاصحابها،ويردوا المظالم لاهلها،و اشهدكم ساكون اول الشهود عليه امام الله.
*** على المقلب الآخر. وفي حي شعبي فقير من احياء المدينة الكبيرة،وعلى مسافة بعيدة من موقع سرادق العزاء في احد الشوارع الخلفية. كانت فتاة مطعونة الكرامة، ممزقة المشاعر، مثلومة الشرف، تتصفح في غرفة صغيرة تعازي النفاق التي تملأ الصحف اليومية ،واصفة الراحل بالرجل التقي النقي الذي قضى عمره في اعمال الخير وخدمة الناس..!