رنين هواتف لمكالمات من داخل الأردن وخارجه، لا يتوقف، وغالبيتها قادم من دول عربية مجاورة، توالت على مكتب "الشيخ "، الذي يقدم نفسه للناس وعبر برنامج في فضائية محلية على انه "يعالج كافة الأمراض"، بقراءة القرآن الكريم على المرضى مباشرة، أو عبر "أسلاك وأثير الهاتف"، ويستخدم في هذا العلاج ماء وزيتا.
جلسة الكشف على مندوبة "الغد"، المتخفية بصفة "مريضة، تبحث عن علاج لتشنجات شديدة ومزمنة في معدتها بعد أن أعجزها الطب"، قاطعتها مكالمات هاتفية عديدة لـ"الشيخ".
وهذا "الشيخ"، الذي يزعم ممارسة العلاج فيما يدعى بـ "مؤسسة" ، التي لا تظهر لافتتها، ولا منشوراتها الموزعة على المرضى والمراجعين صفتها وطبيعة عملها، واحد من عديدين يمارسون ويروجون لقدرتهم على علاج أمراض بينها ما هو مزمن ومعقد كالسرطان والسكري والضغط والسل والعقم وغيرها، ويتهافت عليهم آلاف المرضى، من المملكة وخارجها.
الحاجة أم محمد، راجعت "الشيخ" لعلاج ابنها (30 عاما)، بعد مشاهدتها برنامجه على الفضائية، وقالت لـ"الغد" إنها "حاولت إقناع نفسها بقدرة هذا الشيخ على علاج ابنها، الذي يعاني إعاقة في قدمه اليسرى منذ الولادة"، لكنها اكتشفت أن "علاجه مجرد حيلة".
وكغيرها كثيرين من متابعي "الشيخ"، غرر بها، بادعائه القدرة على علاج الأمراض، عبر تلاوته أدعية وآيات قرآنية على المريض، واستخدام الماء والزيت في ذلك.
رحلة ابن أم محمد، التي فضلت عدم الكشف عن اسمها، ستنتهي عند لقاء "الشيخ"، عندما ذهبت إلى مقر عمله في المؤسسة، واقتصر علاج ولدها لديه، على ورقة بيضاء، مرفق بها خطوات علاجية، هي ذاتها التي يدعو إليها في برنامجه، كلفتها 40 دينارا، كبدل مراجعة، وثمن عبوتَي ماء وزيت.
وبحسب أم محمد، فإن "الشيخ" يقدم نفسه في الفضائية، على انه يحارب من يزعمون معالجة الناس ويتقاضون نقودا بدل ذلك، وقالت إنه يؤكد دائما في برنامجه انه "لا يعمل إلا لوجه الله تعالى، ويرفض ما يقدم إليه من نقود ثمنا لعلاجه"، لكن ما كشفته ام محمد و"الغد" أنه يتقاضى أجرا يتراوح بين 20 و40 دينارا ككشفية.
"الشيخ" فاخر امام "الغد"، خلال مراجعته بصورة متخفية من قبل المندوبة، بأن "صيته" اصبح في الآونة الأخيرة معروفا، ليس محليا وحسب، بل وعربيا، عبر برنامجه "العلاجي"، الذي يقدمه على إحدى الفضائيات، وعبره يرشد "المتصلين إلى كيفية علاج أنفسهم، بترديد أدعية وآيات كريمة وراءه أثناء الاتصال الهاتفي، خارج وقت البرنامج "طبعا"، وبوجود الماء والزيت.
"توكلت على الله.. توكلت على الله.. باسم الله الشافي المعافي.. الله الأكبر" جزء من دعاء، لقنه الشيخ لمتصل سعودي عبر الهاتف بحضور "الغد"، ولم يستكمل تلقينه عندما اكتشف أن المتصل "لم يدهن مكان إصابته بالزيت والماء"، ما استفزه ودفعه لإقفال الخط.
وبعد ذلك، قال ضاحكا "هذا الرجل حوّل لي 500 دولار من أجل أن أقرأ له"، وهو المبلغ المعتمد عند "الشيخ" من أي مريض عربي يتصل به من الخارج، بعد تسجيل اسمه وعنوانه وتحضيره للماء والزيت، في حين يقتصر عمل "الشيخ" "العلاجي" على قراءة أدعية وآيات قرآنية.
وخلف مكتبه، يجلس "الشيخ" مرتديا بدلة فاخرة، مزينا معصمه بساعة ثمينة، وتوحي لحيته الخفيفة بتدينه.
لم تتعد زيارة الكشف لـ"الشيخ" 5 دقائق، لكن تبين لـ "الغد" أن زيارات المرضى له، لا تتضمن فحصا سريريا، أو أي فحص طبي، كما في عيادات الأطباء، ويكتفي فقط بإعطاء المريض "بروشورا"، يضم ما اسماه "برنامجا علاجيا" لـ30 يوما. وهذا البروشور يعطيه لـ:مرضى السكري والسرطان والحالات النفسية والعقم والأمراض الأخرى، المستعصية منها والخفيفة، مدونا أسفله 3 خطوات علاجية، تشتمل على قراءة آية الكرسي 3 مرات قبل أذان الفجر، على صحني زيت وماء، ثم شرب الماء على 3 مراحل، وتليها الثانية والثالثة، يتخللها ترديد أدعية "توكلت على الله"، "هو الحق"، و"هو الشافي المعافي" أثناء عملية "دهن" الزيت مكان العلة.
الى ذلك، اعتبر مسؤولون ونقابيون، أن استقبال هذا الشخص وغيره للمرضى لتلقي العلاج "يخالف القانون وينافي قواعد مزاولة مهنة الطب".
الناطق باسم وزارة الصحة حاتم الأزرعي قال لـ"الغد" "ما يقوم به الشيخ وغيره، من أمور يدعون فيها العلاج من دون ان يكونوا اطباء، يعد ادعاء لمهنة الطب، وأمرا مستنكرا ومرفوضا". وأوضح أن "الطبيب لا يستطيع قانونيا مزاولة المهنة لمجرد حصوله على شهادة طب جامعية، بل عليه حيازة شهادة مزاولة المهنة وترخيصا رسميا، ما يتعارض تماما مع ما يقوم به الشيخ وأمثاله غير الحاصلين على شهادة طب ورخصة مزاولة".
مدير مديرية ترخيص المهن في الوزارة د.عزمي الحديدي كشف الى "الغد" انه "سبق للجهات الرسمية ملاحقة الشيخ قانونيا ولأكثر من مرة، ومنذ عدة سنوات"، لكنه أوضح انه "بمجرد تسرب خبر ملاحقته، يغادر الأردن".
وزاد ان "السياق الذي يعمل فيه الشيخ وغيره، وملاحقته قانونيا أمر ليس سهلا، حيث يصعب غالبا اكتشاف مخالفاته بسهولة، بخاصة في ظل غياب المشتكين"، مؤكدا ان ما "يقوم به الشيخ غش وخداع".
وزير الدولة لشؤون الإعلام د. نبيل الشريف بين أن الحكومة "مهتمة جدا بقضية وقف ممارسة أية عمليات ترويج للخزعبلات، أو ممارسة الطب من دون ترخيص وعلمية"،
لافتا إلى ضرورة ابتعاد وسائل الإعلام عن ترويج هذه الممارسات، والتوعية بخطورتها.
وكانت نقابة الأطباء، طالبت رسميا قبل أسابيع قليلة، عبر مذكرة رفعتها لوزيري الصحة والإعلام، بضرورة التصدي الرسمي لمن يروجون لقدرتهم على علاج الناس، وهم ليسوا أطباء. ولفت الشريف إلى أن وزارة الإعلام، قامت بعد خطاب النقابة بمخاطبة جميع الفضائيات وإبلاغها بضرورة وقف البرامج التي تبث هذا النوع من البرامج، والتي تحمل صفة ترويجية لعلاجات.
وأكد أن موقف الوزارة من هذه البرامج، التي "تروج لشعوذة أو علاج خارق، أمر مرفوض، ولا يسمح بالاستمرار به".
وأكد نقيب الأطباء د. احمد العرموطي أن النقابة "لا تملك سلطة تنفيذية لمعاقبة من يدعون العلاج من غير الأطباء"، ويقتصر دورها "على مخاطبة ودعوة الجهات الرسمية وإبلاغها في بعض الحالات بأسماء بعض المدعين بالقدرة على العلاج من غير الأطباء".
ودعا العرموطي لاتخاذ الجهات الرسمية إجراءات سريعة بحق من يمارسون الشعوذة أو يدعون القدرة على العلاج، وعدم السكوت عنهم، مشددا على أن الأساليب التي "تستغفل المواطنين" مرفوضة، ويجب محاربتها رسميا، وعدم تشجيعها شعبيا، مشيرا إلى أن مثل هذه الظواهر والحالات للمدعين باتت "منتشرة وللأسف شعبيا".
وطالب بـ"متابعة وملاحقة كل من يدّعي العلاج من غير الأطباء، ولا سيما من يستغلون القرآن الكريم وسيلة لإقناع الناس واستغلالهم مقابل ثمن مادي". هذه الظاهرة التي تنتشر على شاشات الفضائيات، دفعت بحسب مسؤولين، إلى تنسيق جهود جهات رسمية لمتابعة الفضائيات التي تروجها، لمنعها.
وفي هذا السياق، قال رئيس قسم الرقابة والتفتيش في مؤسسة الغذاء والدواء د.تحسين العبادي "إن لقاء ضم مسؤولين في المؤسسة وهيئة المرئي والمسموع قبل أيام، لبحث ما يعرض في بعض الفضائيات من برامج علاجية يقدمها غير مختصين"، لافتا إلى الاتفاق على التنسيق المشترك بين المؤسستين لاتخاذ إجراءات قانونية بحق تلك الفضائيات. وبحسب توصيات الاتفاق المذكور، قامت الهيئة، وفق تصريح مديرها امجد القاضي إلى "الغد" امس، بتوجيه "بلاغ رسمي" اول من امس للقناة، التي تعرض برنامجا للشيخ، وطولبت رسميا بوقف بثه تحت طائلة الإنذار القانوني من قبل الهيئة".
وأوضح القاضي أن "عدم إيقاف الفضائية للبرنامج سيعرضها لاتخاذ إجراءات قانونية قد تصل إلى إغلاقها لعدة أشهر"، مؤكدا أن "تلك البرامج مخالفة للقانون ويستوجب ملاحقتها".ورد القاضي على استفسار "الغد" عن سبب عدم ملاحقة هذه البرامج ومروجيها مسبقا، فقال "نحن نتابع ولا نراقب" ما يبث في الفضائيات المحلية، مؤكدا على أنه "ليس من صلاحيات او مهمة الهيئة مراقبة برامج المحطات، إلا في حال وصول ملاحظات وشكاوى بوجود جوانب مخالفة للقانون، ما يستدعي حينها المتابعة والتحقيق واتخاذ الإجراءات المناسبة.