عذابات وليال ملبدة بالدموع. طفولة محفوفة بالألم ومصائر مجهولة وأخرى موغلة في الضياع. تلكم حياة "أيتام" دور الرعاية الحكومية والخاصة في الأردن.
مظاهر الإساءة والإهمال داخل الدور مقرونة بغياب مظلة حكومية لرعاية الأيتام بعد التخرج تجعلهم عرضة للانحراف والتشرد، بل، والموت أحيانا، حسب ما توصل إليه كاتبا هذا التحقيق على شهادات لمنتفعين حاليين وسابقين، أكدت بعضها معلومات حكومية وشبه حكومية.
إهمال المشرفين يقود إلى القبر
الفتى فريد، وهو اسم مستعار، المصاب بالتلاسيميا الكبرى لقي حتفه بنوبة قلبية في ظل "إهمال" دار رعاية مادبا الحكومية في تأمين نقله دوريا إلى مستشفى البشير من أجل تغيير دمه.
في 6 نيسان (ابريل) 2007 توفي الفتى بنوبة قلبية في مستشفى الأمير حمزة التي نقل إليها في حال الخطر، حسب ما يستذكر أقرانه في دار الرعاية.
الناطق الإعلامي لوزارة الصحة حاتم الأزرعي يقر بهذه الواقعة، موضحاً "كان القائمون على الدار يتأخرون في إحضاره في المواعيد المقررة لتغيير الدم، ما اضطر مستشفى البشير لإبلاغ إدارة المركز بضرورة الالتزام بالمواعيد المحددة، لا سيما أن فريدا كان يعاني من أعلى درجات مرض التلاسيميا".
خريجون عاشوا معه في المركز ذاته أرجعوا تأخر فريد "إلى عدم تواجد الحافلة المخصصة لنقله دائما لأنها كانت حكرا على تنقلات مدير الدار ومتطلباته الخاصة".
من جهته، ينفي مدير دار مادبا في فترة وقوع الوفاة، صحة تلك المعلومات، مؤكدا أن "فريدا كان يلقى اهتماما صحيا استثنائيا. كما أنه لم يحدث أن تأخر عن موعده الشهري لتغيير الدم، إلا نزولا عند رغبة مستشفى البشير نفسه بسبب ضغط المراجعين".
الإهمال الذي أدى لموت فريد يبدو سمة عامة لدور رعاية الأطفال، حيث ينتشر الضرب، والشتائم، والاعتداءات الجنسية في غياب برامج رعاية متطورة، بحسب نتائج الزيارات الميدانية لكاتبي التحقيق وإفادات أكثر من 30 يتيما ويتيمة.
هناك 29 دارا لرعاية الأيتام في المملكة أربع منها حكومية، فيما يصنف النزلاء بين يتيم الأب و/أو الأم والقادم من أسرة مفككة أو مجهولي النسب، في حين يزيد عدد الأطفال المنتفعين عن 700، بحسب أرقام وزارة التنمية الاجتماعية.
هذه المراكز تنقسم حسب الفئات العمرية، فإن دخلها الطفل في سن الرضاعة يودع في المؤسسات بين يوم وست سنوات، ثم ينقل إلى الدور من الفئة العمرية ما بين 7 و14 عاماً، وأخيراً إلى إحدى المؤسسات ما بين 14 و18 عاماً.
هذا التصنيف يترك أثارا نفسية مدى الحياة، "فهو لا يتناسب مع طبيعة الطفل النفسية التي تنشد الاستقرار، كما أنها ستدفعه للاعتقاد أن الدار تخلت عنه، نظرا لعدم قدرته على تفسير هذا التنقل"، كما يرى مدير الرعاية والمشورة المتخصصة في مؤسسة نور الحسين الدكتور جلال ضمرة.
يذكر أن هذه المديرية هي هيئة شبه حكومية، يوجد فيها قسم معني بتوفير علاجات للأطفال ضحايا العنف الأسري والإساءة.
إهمال يفتح الباب للاعتداءات الجنسية
"كانت الدنيا شتا. نزلت معو لصالة النشاطات، كان عمري 12 عاماً. طلب مني أن أشلح ملابسي. خفت.. بس هو طمني إنه ما حد راح يعرف. وافقت، وعمل إللي عملوا"، تلك كانت شهادة أحمد (16 عاما)، وهو اسم مستعار أيضاً، المنتفع الحالي، الذي وافق على سرد مأساته على مضض بعد تكرار محاولات إقناعه بضرورة كشف الحقائق.
وأضاف أحمد "صار بعدها يأخذ مصروفي غصب، يضربني ويتحكم فيي. ما حكيت للمشرفين، خفت يعايروني الولاد إذا عرفوا".
مها (23 عاما)، اسم مستعار، لم تستطع هي الأخرى محو حوادث الاعتداء الجنسي التي عانتها في الدور من ذاكرتها.
تقول مها "كان الأطفال يمارسون الجنس مع بعضهم البعض. وقد اعتدي علي جنسيا عدة مرات من أطفال يكبرونني سنا حين كنت في العاشرة في دار الحنان (إربد)".
وتستطرد بتردد خالطته الدموع "أما في مركز فاطمة الزهراء التي انتقلت إليها في الثانية عشرة من عمري. فقد تعرضت لتحرش جنسي من إحدى المشرفات هذه المرة. ظلّ الخوف من أن أكون فقدت عذريتي يطاردني في الكبر، إلى أن أجريت فحص العذرية ليتبين بعدها أنني عذراء".
من جانبها، لا تنف وزيرة التنمية الاجتماعية هالة بسيسو لطّوف "احتمال تعرّض بعض الأيتام الصغار لاعتداءات من قبل زملائهم الأكبر سنا"، لكنها لم تؤكد ورود تقارير عن وقوع مثل هذا النوع من الحالات إلى الوزارة.
في هذا السياق، تؤكد لطّوف حرصها على "فصل الأطفال ما أمكن طبقا للعمر تلافيا لاحتمال وقوع اعتداءات جنسية ضد الأطفال الأصغر سنا".
قبل عامين، خصصت وزارة التنمية الاجتماعية دار الحنان للفتيات فقط، وقبل ذلك حوّلت دار فاطمة الزهراء للذكور.
تأكيد شبه رسمي للاعتداءات
يفيد تقرير صدر عن قسم الرعاية والمشورة المتخصصة التابع لمؤسسة نور الحسين، بناء على طلب كاتبي التحقيق، أن "أكثر من عشرة أيتام من خريجي ومنتفعي دور الرعاية، تم تحويلهم إليه، قد تعرضوا لاعتداءات جنسية وبدنية داخل الدور".
لا يوجد أرقام دقيقة لأعداد خريجي دور الرعاية، إلا أن وزارة التنمية الاجتماعية تتحدث عن أكثر من 1200 خلال العقد الماضي، غالبيتهم خارج الاهتمام أو المتابعة.
وجاء تقرير المؤسسة، بعد إخضاع هؤلاء الأيتام لجلسات طبية نفسية تم من خلالها عرض تجارب طفولتهم وقياس أثرها عليهم في الكبر.
الاعتداءات ... ماض ينعكس في مرآة الحاضر
وقائع الاعتداءات الجنسية، بحسب مشرف سابق، تعود جذورها إلى أكثر من ثلاثة عشر عاما، قبل أن تنقل "دار مادبا" من وسط البلد إلى مادبا.
يؤكد هذا المشرف، الذي شهد عدة وقائع من هذا القبيل، أن الموقع القديم "كان مقصدا لعدد من المنحرفين والزعران أصحاب السوابق الذين كانوا يتقصدون دخوله في مناوبات مشرفين ضعاف ليعتدوا على بعض الأطفال جنسيا وبدنيا بشكل سافر".
ويشرح أن "تلك الاعتداءات وضعت الأيتام في دائرة مغلقة، فمن اعتدى عليه في صغره اعتدى في كبره على من يصغرونه سنا".
ويؤكد عبد الإله (26 عاما)، اسم مستعار، الذي كان أحد هؤلاء الأطفال، أن "أصحاب السوابق كانوا يدخلون دار مادبا (التي كان موقعها في وسط البلد) في مناوبات المشرفين الضعاف، يتناولون العشاء ويستحمّون، ثم يصعدون إلى غرف الأطفال، يختارون أحدهم ويعتدون عليه جنسيا. وأنا كنت واحدا من الذين اعتدي عليهم على يد أيتام أكبر مني وأصحاب السوابق على السواء".
يضيف عبد الإله "كنت أذهب بصحبة أرباب السوابق إلى محال البالة وسط البلد. أبيع وأشتري. علموني تعاطي المخدرات والكحول التي كنت أهربها إلى داخل الدار".
رغم مرور كل هذا الوقت على تلك الوقائع، إلا أن هذا الشاب يبدو متأثرا وكأنها حصلت للتو. فهو "لا يستطيع احتساب المرات التي اعتدي عليه جنسيا فيها لأنها كثيرة"، بحسب قوله.
أصدقاء عبد الإله من الأيتام ممن عاصروا تلك الفترة، يمرون في لحظات من الاكتئاب لدى استذكار محطات الطفولة المكتظة بمشاهد مشاجرات دامية واعتداءات جنسية، كما يصفون، فيما أكد بعضهم "تعاطيه للحبوب المخدرة والكحول عند مروره في مثل هذه اللحظات من الاكتئاب".
الأثر النفسي
أخضع كاتبا التحقيق أكثر من عشرة شباب لفحص نفسي لدى مختصين، فأقروا جميعا بـ"تعرضهم لاعتداءات جنسية وبدنية"، ما تسبب بحسب نتائج التحليل، في معاناتهم من أعراض نفسية سلبية مثل "الاكتئاب، وضعف التقدير الذاتي والخوف من المحيط".
أيتام تحت سياط التعذيب
"كان الطفل يلف في سجادة حتى لا يظهر منه سوى رأسه وقدميه، ليشرع المشرف بضربه بعصا "القشاطة" أو بكيبل الكهرباء، على قدميه حتى تتكسر العصا، ويستبدلها أحيانا بأخرى"، هكذا يصف محمد (16عاما)، اسم مستعار، أحد المنتفعين الحاليين في دار مادبا حالات الضرب التي عايشها حين كان في الرابعة عشرة من عمره.
نحو 15 شهادة خطية ومسجلة لمنتفعين حاليين في دار مادبا الحكومية لرعاية الأيتام، من أصل 25 منتفعاً أكدت "تعرضهم للضرب المبرح".
إلى ذلك أظهرت نتائج استبانة على عيّنة عشوائية من 50 يتيما متخرجا "أن 91% منهم تعرضوا للضرب، و89% للشتم بعبارات جارحة "بشكل دائم" من قبل عاملين في الدار".
سجون أم دور رعاية؟
تتنوع الإساءات بين الشتم، والتعيير بمجهولية النسب، والحبس في غرف مظلمة طوال الليل أسفل الدرج أو رش الأطفال بالماء الساخن ويليه فورا البارد، إضافة للضرب "بالفروجة" (الفلقة).
"الفروجة"، أسلوب ضرب مبتكر في دور رعاية الأطفال الذكور يقوم على ربط الأرجل بعصا توضع بين الركب، تشد الأيدي إليها بحبل، يعلق الطفل على مكان مرتفع، ويضرب بعصا "القشاطة" أو باستخدام "البربيش".
أحد المشرفين السابقين في دور الرعاية، يصف من جهته الضرب داخل المراكز بـ"المبرح والتعسفي"، مؤكداً أنه "يصدر عن المشرفين والمديرين على حد سواء بشكل روتيني".
"إنه التعذيب"، هكذا يصف الباحث والأخصائي الاجتماعي الدكتور حسين الخزاعي، مثل هذه الوقائع، مؤكدا أن "مجرد نهر اليتيم يندرج تحت هذا الباب".
ويعرّف الخزاعي التعذيب بأنه "أي سلوك يمكن أن ينتقص من شخصية الإنسان. وهو يتنوّع بين اللفظي والجنسي والاقتصادي والنفسي".
بدورها، أكدت رئيسة وحدة الرصد والشكاوى في المركز الوطني لحقوق الإنسان كريستين فضول أن مثل تلك الأنواع من الإساءة ستتجلى آثارها على اليتيم عبر مشاعر "الكراهية، والاغتراب، والعزلة".
إلا أن الوزيرة لطّوف تؤكد أن ظاهرة الضرب في مراكز رعاية الأيتام أصبحت "من الماضي"، مشيرة إلى التعديل الحكومي الأخير على "نظام الخدمة المدنية" الذي شدد العقوبات
على مرتكبي الإساءة بحق الأطفال في دور الرعاية بحيث تتدرج من حسم الراتب إلى الفصل من المهنة.
ضعف نظام الرقابة
لكن تشديد العقوبة قد لا يحل المشكلة في ظل "ضعف نظام التفتيش الحالي للحماية من الإساءة، وقلة خدمات دعم الضحايا في دور الرعاية"، كما تبين دراسة صدرت العام الماضي عن المجلس الوطني لشؤون الأسرة بالتعاون مع "اليونيسف".
ويؤكد ذلك بحث تحليلي أردني آخر في العام ذاته حول مؤسسات رعاية الطفولة المختصة بالأيتام، كما أصدر المجلس العربي للطفولة والتنمية التابع للجامعة العربية تقريرا لاحقا يتحدث جزئيا عن الدراسة الأردنية تحت عنوان "واقع الرعاية البديلة في العالم العربي".
أشغال شاقّة
في تقريره للعام 2006، نشر المركز الوطني لحقوق الإنسان نتائج زيارات ميدانية لـ11 مؤسسة رعاية أطفال من أصل 24
أجملت رؤيته لأوضاع مراكز رعاية الأيتام في الأردن.
نتائج الزيارات، بينت "أن أوضاع مؤسسات رعاية الطفولة تختلف من مؤسسة إلى أخرى. ورغم أن معظمها يلبي غالبية احتياجات الأطفال الأساسية من غذاء ومأكل ومشرب وملبس، إلا أنها تفتقر إلى البرامج التربوية والاجتماعية الهادفة، والخطط الفردية لرعاية الأطفال".
كاتبا التحقيق جالا في خمس دور رعاية حكومية وخاصة من الجندرين ومن مختلف الأعمار، حيث بدا أن الحال لم يتغير كثيرا.
في دار مادبا لرعاية الأيتام اليافعين يخيل للزائر أنه على أبواب ثكنة عسكرية، حيث تحيط الأسلاك الشائكة بالدار من الخارج، وتنتشر على الجدران من الداخل ملصقات ضد الفساد والمحسوبية، لكنها تخلو من كل ما يتعلق بالطفولة.
"الغابة"، و"السجن" و"المضب"، هكذا يصف أطفال دار رعاية مادبا، مركزهم.
مبرة أم الحسين لرعاية الأيتام، الأعرق والأكبر في الأردن، تعاني من اكتظاظ صالات النوم بالأطفال، حيث ينام في كل صالة ما بين 10 و16 طفلا على أسرّة متقاربة.
تبدو مرافق المبرة أفضل حالا من نظيرتها في دار مادبا، التي تعوزها النظافة، لأن "المستخدمة لا تقوم بعملها. فالأطفال هم الذين يقومون بأعمال التنظيف يوميا"، كما أسر أحد المنتفعين لكاتبي التحقيق.
في استطلاع آراء الحالات التي زادت عن الثلاثين، أكدت جميعها أن تنظيف المركز يعد جزءا من مهامهم داخل الدور، رغم أن أنظمة دور الراعية تشترط وجود مستخدم للقيام بهذا النوع من المهام.
في هذا السياق، تستذكر جمانة (22 عاماً)، اسم مستعار، تدرس علم النفس على نفقة محسنة ترفض ذكر اسمها، معاناتها حين كانت في الدار.
توضح "كنت أخجل من الاحتكاك بالطالبات في المدرسة حتى لا يتنبهن لرائحة المنظفات والكلور في ملابسي. فقد كنت وزميلاتي في دار النهضة، ننظف أروقة الدار فجر كل يوم".
هذا الواقع يفسر "انتشار الشعور بعدم الرضا بين الأطفال المقيمين في المؤسسات"، كما ترى دراسة أجرتها وزارة التنمية الاجتماعية على مراكز رعاية الطفولة والأحداث العام 2001، وأكدت نتائجها دراسة استكمالية العام 2005.
اليافعون ضحايا تباين الأنظمة وتراجع الخدمات في دورهم تبدو الصورة في بعض دور الرعاية الخاصة بالأطفال قبل سن 14 أفضل حالا من دور اليافعين، فضلاً عن الاختلاف الجلي بين تلك الدور.
في زيارة ميدانية لداري رعاية أطفال شفا بدران ومؤسسة الحسين (حكوميتان)، يبدو جليا الاهتمام بالمرافق.
هناك ألوان زاهية للغرف والأثاث، وملصقات طفولية، ونظافة المرافق وحداثتها، واهتمام واضح بتوفير صالات للمطالعة مزودة بالمكتبات إضافة للمسطحات الخضراء للعب.
ويحصل الأطفال أيضا على عناية صحية في مراكز طبية خاصة مع وجود صيدلية وممرض داخل المركز، فضلا عن توافر برامج للدعم النفسي. كل هذه الخدمات تبدو غائبة عن دور اليافعين.
هذه الخدمات الفريدة تثير قلقا لدى إدارة الدارين من نقل الأطفال بعد إتمامهم السن القانونية لمراكز اليافعين، إذ "ستتغير الخدمات والأجواء جذريا على أؤلئك الأطفال، وسيعانون في مراكز الكبار من تنمر المراهقين عليهم".
غياب التراكمية في عمل الدور، في ظل تباين الأنظمة بينها، يعزز احتمالات فشل الجهد المبذول في "شفا بدران" و"مؤسسة الحسين"، وهو أمر تقره الوزيرة لطّوف التي أكدت أنها تسعى في هذا السياق "لإبقاء الأطفال في تلك المؤسسات وعدم نقلهم إلى مادبا ريثما يتحسن وضع الأخيرة".
أيتام شبه أميين
"لماذا نهتم بالمدرسة"؟ يتساءل محمد، اسم مستعار، "فالأساتذة يعاملوننا إما بشفقة زائدة أو بقسوة زائدة. وحين نعود إلى المركز، لا نجد من يتابع دروسنا فنبقى ننظف أو نلعب حتى موعد العشاء لنأكل ثم ننام"، حسب ما يضيف المنتفع الحالي في إحدى دور الرعاية الحكومية.
إفادة هذا الطفل تعززها نتائج استبانة وزعت لصالح التحقيق على عينة من 50 يتيماً، إذ بينت أن أكثر من نصفهم لم يكملوا المرحلة الإعدادية.
غرفة واحدة شبه مظلمة، تتوسطها طاولتان من البلاستيك تتسع كل منهما لأربعة كراسي. ذلك هو ركن المطالعة الذي يدرس فيه الأيتام بمركز مادبا الذي يؤوي 25 طفلاً.
إلى جانب غياب مرافق الدراسة، يعطى الأطفال، حسب برنامج الدار، ثلاث ساعات للعب وساعة واحدة للدراسة ليلاً.
وضع دفع باتجاه تقصي مستوى التحصيل المدرسي للأيتام في دور الرعاية، ليتبين بعد البحث في سجلات وزارة التربية والتعليم لعينة من ست مدارس وسط وشمال المملكة، أن علامات الطلبة الأيتام في تلك المدارس تتراوح ما بين 45 و50%.
تدني التحصيل العلمي لأيتام دور الرعاية أمر كانت نبهت له دراسة أجراها قبل تسعة أعوام معهد الملكة زين الشرف التنموي بالتعاون مع وزارة التنمية الاجتماعية على مركز رعاية أيتام يأوي فتيانا بين سن 6-12.
تلك الدراسة كشفت عن "أن التحصيل الأكاديمي للأطفال ضعيف، وأن 15% من عينة الدراسة لا يعرفون القراءة والكتابة، كما أنهم يشعرون بالوصم الاجتماعي من قبل زملائهم في المدرسة".
لا تستغرب الوزيرة لطّوف هذا الانحدار في المستوى التعليمي للأيتام، "فالدراسات العالمية تشير إلى تدني التحصيل العلمي للأطفال في مؤسسات الرعاية في كل أنحاء العالم تقريبا"، بحسب رأيها.
إلا أن تقرير التنمية البشرية في الأردن للعام 2004، يشير إلى "أن تدني التحصيل المدرسي للأطفال، بشكل عام، إلى جانب ميلهم للعدوانية والشعور بعدم الأمان، كلها تعد نتائج لتعرضهم للإساءة في صغره".
دور الرعاية ... كوادر غير مؤهلة ... ومشرفون اجتماعيون بشهادة الابتدائي
يتساءل مشرف سابق في دور الرعاية "كيف تريد من مشرفين يحملون شهادة الابتدائي الاهتمام بمتابعة دروس الأطفال الأيتام".
وثبتت صحة ذلك سجّلات ديوان الخدمة المدنية لمؤهلات المشرفين في وزارة التنمية الاجتماعية؛ إذ كشفت أن من أصل 287 مشرفا اجتماعيا، هناك 38 لا يحملون شهادة الثانوية العامة، مقابل 43 يحملون مؤهل ثانوية عامة، فيما يحمل البقية شهادات جامعية.
في دار الحنان للرعاية أيضا، يحمل نحو عشرة مشرفين من أصل 15 شهادات تتراوح ما بين الثانوية والدبلوم، بحسب تأكيدات إحدى مشرفات الدار، فضلت عدم ذكر اسمها.
إلى ذلك، كشفت سجلات الموظفين في دار مادبا عن أن أحد المعينين بمهنة سائق وبمؤهل ثانوية عامة، يعمل الآن بمهنة مشرف اجتماعي.
المفارقة أن أحد حملة دبلوم التمريض عينت في مهنة "مستخدم" عامل تنظيفات، فيما يعمل آخر مشرفا رغم أن صفة تعيينيه مساعد مشرف اجتماعي، كون مؤهله العلمي لا يتجاوز الثانوية العامة.
ضعف تأهيل الكوادر المتخصصة ورد ضمن الدراسة التحليلية المذكورة سابقا عن واقع الرعاية البديلة في العالم العربي.
في معرض تعليقه على تلك المواصفات، يطالب الخزاعي بأن يتمتع القائمون على دور الرعاية البديلة بـ"مزايا اختصاص في علم النفس والاجتماع ممن خضعوا لتدريب مكثف"، مفضلاً "استدراج المتطوعين منهم لشغر هذه الوظائف".
في انتظار تشريعات ورقابة سيبقى الأطفال واليافعون تحت رحمة مشرفين غير مؤهلين و"تنمّر" زملاء أكبر سنا، في مناخ أقرب ما يكون إلى "شريعة غاب".
الشرطة في مواجهة الأطفال
"هل تتخيل أن يحضر لك والدك الشرطة؛لأنك خالفت تعليماته، أو لأنك تشاجرت مع شقيقك؟"، كان ذلك تساؤل الطفل اليتيم خالد ( 16 عاماً)، وهو أيضاً اسم مستعار، حول اقتحام الشرطة لدار رعاية مادبا بناء على شكوى من القائمين على الدار من "دون سبب مقنع"، بحسب رأيه.
بتاريخ 8 تشرين الأول (اكتوبر) و 1 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضيين علم كاتبا التحقيقب"دخول الشرطة إلى دار رعاية أطفال مادبا وتوقيف عدد منهم وضرب آخرين، إما بسبب مشاجرة بين الأيتام أو لإجبارهم على النوم"، كما يؤكد الأطفال.
رغم نفيه لضرب الأيتام، إلا أن المكتب الإعلامي لمديرية الأمن العام أكد "اقتحام" أفراد الشرطة للمركز، مشددا على"أن ذلك جاء نزولا عند طلب إدارة الدار".
خريجو دور رعاية الأيتام: مشاريع انتحار وانحراف مؤجلة
مئات الأيتام واليتيمات ضحايا غياب مظلة حكومية بعد البلوغ
ككرة الثلج، سيصلك أحدهم بالآخر، فلا سبيل لهم إلا هم أنفسهم، ولا ثقة إلا داخل حلقتهم المغلقة. بلا شهادات، بلا مؤهلات. بعضهم من رماه أهله وغابوا، بعضهم بلا أهل.
في شارع خرفان، الغويرية، حي المصاروة، وادي الحدادة... في قاع المدينة ابتلعتهم الازقة... قد يبيتون ليالي بلا طعام، قد يقرر بعضهم أن لا يبيت، فيضع حدا لحياة يراها بلا جدوى أو يبقى أسيرا لفكرة الانتحار... إنهم الأيتام من خريجي دور الرعاية الحكومية والخاصة في الأردن.
إلى الآن، لا توجد قاعدة بيانات ناجزة لتتبع هؤلاء، ومعرفة مصائرهم بعد تخرجهم من الدور عند سن الثامنة عشرة.
"فالعمل على هذه القاعدة ضعيف والأولوية لأخرى تخص خريجي دور الأحداث"، بحسب وزيرة التنمية الاجتماعية هالة بسيسو لطوف.
خروج الأيتام من الدور... مقدمات مختلفة ونتائج واحدة
"إجاني المشرف قلي إقامتك خلصت لأني صرت 18 عاماً. كان بجيبتي 15 قرشاً لما طلعوني. هيك فجأة لقيت حالي بالشارع مش عارف وين لازم أروح"، هكذا يصف قاسم (26 عاما)، وهو اسم مستعار، الكيفية التي تخرج بها من دار الرعاية الإيوائية بالطريقة القانونية، بعد أن أتم الثامنة عشرة.
براءة (23 عاماً)، اسم مستعار أيضاً، لم يتسنّ لها المكوث في دار النهضة لرعاية الفتيات لحين انتهاء فترة الإقامة القانونية.
إذ طردت من المركز وهي في السابعة عشرة من عمرها في العام 2006. لتبدأ رحلتها مع التشرد لأكثر من عام قبل أن تحظى برعاية إحدى المحسنات التي آوتها وخريجات أخريات في بيت تملكه.
أما نوح (20 عاما)، اسم مستعار، فقد رمي وشقيقه الأصغر إلى الشارع قبل أربعة أعوام، لأن "إدارة دار رعاية الأطفال- مادبا، لم تجدد إقامته" كما يفيد.
نوح الآن بلا عمل أو مأوى، بعد أن تشاجر مع مالك ورشة دهان سيارات، حيث كان يعمل ويبيت.
قاسم، براءة، نوح، يختزلون قصص معاناة يرزح تحت وطأتها معظم خريجي دور رعاية الأطفال، الذين بلغ عدد من تخرج منهم 1205 شباب وفتاة بطريقة (قانونية) بين الأعوام 2001 و2008، حسب أرقام وزارة التنمية الاجتماعية.
ناهيك عمن تخرج قبل إتمام السن القانونية بطرق مختلفة تتراوح بين الطرد، الهرب، والتسليم لأقرباء غير مؤهلين.
نظام غربي لبلد عربي
خروج هؤلاء الأيتام عند سن البلوغ من دور الرعاية إلى "اللامكان" أمر يندرج في سياق نظام لدى وزارة التنمية الاجتماعية أقر منذ 38 عاما يحدد الرعاية لسن الثامنة عشرة فقط، وهو "نظام رعاية الطفولة منذ الولادة حتى سن 18 رقم 34 للعام 72 الصادر بموجب (قانون وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وتعديلاته) للعام 54".
ليس لدى الوزيرة لطوف أي تحفظ تجاه هذا النظام، "فالأردن من البلدان المبادرة لرفع سن الطفولة للثامنة عشرة بمصادقته على اتفاقية الطفل العام 1990، التي تنص على انتهاء عمر الطفولة ببلوغ الثامنة عشرة، حيث يستطيع المنتفع عند هذه السن الاعتماد على نفسه"، كما تضيف.
الباحث والاختصاصي الاجتماعي الدكتور حسين الخزاعي لا يرى هذا النظام مناسبا "فمن غير الجائز رفع مظلة الحماية عن الأيتام بعد سن الثامنة عشرة، لأنه عمر الاندماج في الحياة، وفيه يحتاج اليتيم إلى من يعينه على استيعاب التناقضات الاجتماعية والمادية الطبقية من حوله".
ويؤكد الخزاعي أن "تلك الأنظمة غربية تتماشى مع مجتمعاتها الفردية، أما المجتمعات العربية، فتقوم على البناء الجمعي الأسري، حيث يبقى الشخص بحاجة إلى العائلة والرعاية المعنوية في كل مراحل حياته".
الانتحار أو الانحراف... مصيران أحلاهما مر
(م، ش) 26 عاماً، طرد من دار رعاية الأطفال- مادبا، طفلاً لم يتم الـ18 عاما، وجد نفسه مسؤولا عن تأمين مأوى له ولصديقه، فقادته قدماه للاستئجار في شارع خرفان. لم يكن يملك النقود لدفع الإيجار، فكان الثمن الذي يرضي صاحب البيت "ممارسة الجنس معه"، وكان خيار الطفل قتل المؤجر دفاعا عن عرضه، تلك الرواية منتشرة بين أقرانه الأيتام وأحد المشرفين ممن تابع أحواله بعد التخرج.
هذا الشاب يمضي الآن حكما مدته 13 عاماً في سجن سواقة بتهمة "القتل" ينتهي في العام 2014.
اليتيم (م.ع) سلمته دار الرعاية العام 2001 إلى أخوة غير مؤهلين، بحسب شهادة أحد مشرفي الدار في ذلك الوقت، وبعد رحلة من الانحراف، قرر أن يضع نهاية لحياته.
هذا الشاب وجد منتحرا شمال المملكة، حسب ما أكد المكتب الإعلامي لمديرية الأمن العام.
ثائر (20 عاما)، وهو اسم مستعار، حاول الانتحار أكثر من مرة، لكنه لم ينجح، كما يفيد تقرير طبيبه النفسي.
من عجز عن الانتحار، وجد نفسه منقاداً لطرق الانحراف لتأمين لقمة عيشه كما حصل مع فريدة (22 عاما)، وهو أيضاً اسم مستعار، التي أجبرها العوز والتشرد على العمل كمغنية في ناد ليلي في العقبة، بعد أن افترشت ليالي كراج أحد المولات لتنام.
تلك الشابة تعاني الآن من مشكلة في تدبر أجرة سكنها، بعد توقفها عن العمل وعودتها إلى عمان.
"ما يمر به هؤلاء الأيتام من عنف أسري، مؤسسي ومجتمعي، يفسر تفريغ مآسيهم في المجتمع وفي أنفسهم بعد البلوغ، فشخصية الإنسان تتكون نتيجة خبرات الصغر بشكل أساسي"، كما يؤكد مدير مركز الرعاية والمشورة المتخصصة في مؤسسة نور الحسين الدكتور جلال ضمرة.
التسليم... طرد بوسائل أخرى
في 21 تشرين الأول (اكتوبر) الماضي، تفاجأ كاتبا التحقيق، بالطفلة رجاء (17 عاما)، اسم مستعار، تجوب الشوارع بحثا عن مأوى، بعد هربها من منزل ذويها في اربد.
رجاء سلمتها دار النهضة لرعاية اليتيمات قبل عام ونصف العام لشقيقتها المتزوجة، إلا أن زوج أختها أصر على إعادتها لأهلها أخيرا، ما دفع الفتاة إلى الفرار وتبرير تصرفها بعدم قدرتها على تحمل العيش في "خيمة" يعيش فيها أهل تشعر بالاغتراب عنهم.
رجاء تقيم اليوم في إحدى جمعيات الرعاية بعد أن سلمها أحد المحسنين لمديرية حماية الأسرة.
أما فريدة (21 عاما)، وهو اسم مستعار لفتاة مجهولة النسب، فتؤكد أيضا أن دار الرعاية أجبرتها على مغادرة المركز بعد إرغام خالها التوقيع على استلامها.
لدى الخال عملت الطفلة كـ"خادمة"، فآثرت الهرب عند أخيها الذي حاول صديقه اغتصابها، فكان الهروب خيارها القسري للمرة الثانية.
واقعة التسليم لوليّ غير مؤهل، تكررت مع عشرات الأيتام واليتيمات الذين تمت مقابلتهم، فيما وجدت نتائج استبانة وزعها كاتبا التحقيق شملت 50 يتيماً ويتيمة تخرجوا من دور الرعاية، أن سبعة من كل عشرة أخرجوا من الدار قبل السن القانونية من خلال التسليم، وأن خمسة من كل عشرة تعرضوا للطرد من الدار.
وكشفت النتائج عن أن نسبة الطرد ترتفع عند الفتيات أكثر من الشباب، فمن أصل 25 فتاة خضعن للدراسة، 20 منهن تم طردهن.
يأتي ذلك رغم أن قوانين الوزارة تشترط أن يتم إعداد دراسة من قبل اختصاصيين وباحثين على وضع الولي ومدى أهليته لتسلم الطفل.
إلا أن اختصاصية اجتماعية سابقة في دور الرعاية تؤكد أن آلية التحقق من قبل الوزارة "غير مفعلة في معظم الأحيان، فالأطفال يسلمون من دون التأكد الكافي من أهلية الولي".
الزواج... طرد بأساليب أخرى
لم يشفع لها ضعف البصر، بل لعله كان سببا في تمرير زواجها أثناء إقامتها في دار النهضة للفتيات اليتيمات من رجل في الـ39 من عمره، ليتبين لها في ليلة الدخلة وبعد نقل "العريس" إلى المستشفى أنه يعاني أمراضا في القلب ومشاكل صحية تحول بينه وبين الزواج، كما علمت الفتاة من طبيبه.
نشوة (22 عاما)، اسم مستعار لفتاة مجهولة النسب، شبه الضريرة، والمطلقة الآن، تؤكد أن "أحدا لم يخبرها بمعنى الزواج وماهيته. وإن طليقها العليل لم تكن تعنيه حرمة الجماع في فترة الحيض".!!
تلك كانت إحدى حالات الزواج لفتيتات يتيمات زوجن بالترغيب والترهيب في سن الثامنة عشرة وقبل التخرج من دار الرعاية.
في رصد لعشرين فتاة متزوجة أمضين أكثر من نصف حياتهن في دور الرعاية، تبين أن تسع زيجات انتهت بالطلاق، فيما تعاني من لم تطلق من الضرب المبرح وانعدام المستوى المعيشي الآمن.
ويرفض الخزاعي تزويج اليتيمات قبل التخرج، معتبراً ذلك "عائقا أمام دمجهن في المجتمع".
بدورها، نفت الوزيرة لطوف أن تكون وزارتها زوجت أيا من المنتفعات منذ توليها المنصب قبل نحو عامين، مشيرة إلى أنها تفضل أن يتم تأهيل اليتيمة وتعليمها قبل الإسراع بتزويجها.
عناية حكومية لا تكفي
تحاول وزارة التنمية الاجتماعية توفير مظلة حماية للفتيات لفترة محددة بعد التخرج تؤهلهن فيها للاندماج في المجتمع معتمدات على ذاتهن.
"بيوت اليافعات"، عبارة عن شقتين دشنتا بمبادرة ملكية في آب (أغسطس) الماضي، من أبرز مشاريع الوزارة في هذا السياق، حيث يؤمن لهن السكن والأكل واللباس على نفقة الوزارة بالتوازي مع برامج التأهيل والدمج الاجتماعي حتى سن 27 عاما.
إلا أن 12 فتاة فقط يستفدن من المشروع في مقابل عشرات اليتيمات المشردات اللائي أصبحت بيوت الوزارة بالنسبة لهن حلما صعب المنال.
نرمين (22 عاماً)، اسم مستعار، حاولت مراراً الالتحاق ببيوت، إلا أن رفض الوزارة كان سيد الموقف دوما بسبب "عدم قدرة المشروع الوليد على استيعاب المزيد منهن"، حسب قولها.
"عدم توفر الميزانية والتروي بتوسيع الفكرة، مع الحرص على استدراج أكثر الفتيات حاجة للإيواء والدعم"، السبب في قلة عدد تلك البيوت بالقياس مع أعداد الخريجات، كما تؤكد لطوف.
وإلى حين توسعة المشروع، تبقى عشرات الفتيات ممن تخرجن وسيتخرجن عرضة للانحراف، التشرد وانعدام الأمان، تماما كما حصل مع خالدة (19 عاماً)، وهو أيضاً اسم مستعار.
ففي منتصف ليل ثالث أيام عيد الأضحى، اتصلت تلك الفتاة، وهي خريجة حديثة من قرى الأطفال (إس أو إس) بكاتب التحقيق على استحياء لطلب المساعدة، فبعد 24 ساعة ستكون هي وصديقتها منال بلا مأوى، في حال لم تقوما بدفع أجرة المنزل.
وفي ظل سعيهما المحموم لتوفير أجرة المأوى خشية المبيت في العراء، يتحول الخبز والطعام إلى كماليات تغيب عن أرفف ثلاجة بيت هاتين اليتيمتين لأيام.
لا بيوت للذكور
مشكلة الأيتام الذكور مع السكن ليست أقل تعقيدا في ظل افتقارهم للتعليم والخبرات من جهة، وتدني الأجور وندرة فرص العمل من جهة أخرى، فمعظمهم يعيش في بيوت مهترئة، وإن استطاع تدبر الإيجار، يقع فريسة الجوع وعدم القدرة على توفير الحد الأدنى من احتياجاته الأخرى.
قاسم (26 عاماً)، اسم مستعار، تخرج وإخوته الثلاثة من دور للرعاية قبل سبعة أعوام، يسكن منزلا رثا في وادي الحدادة يعوزه الجو الأسري الدافئ.
يعمل وإخوته الثلاثة بإجمالي دخل لا يتجاوز الـ300 دينار، يذهب أكثر من نصفه أجرة تنقل، والباقي يتوزع بين تسديد أجرة المنزل والفواتير.
يقول قاسم "ماذا بيدي لأفعله، في النتيجة لا احد يعرف أنني وإخوتي ننام ليومين أحيانا بلا طعام".
ثائر (22 عاماً)، اسم مستعار أيضاً، يواجه الواقع ذاته، في منزل أقرب للبيت المهجور، من غرفتين صغيرتين ومنافعهما في الغويرية بمحافظة الزرقاء.
يسكن وبصحبته أكثر من 5 أيتام، ينفق جل ما يحصله من منحة صندوق الأيتام على تنقله من وإلى عمان.
رغم ذلك، ترفض الوزيرة لطوف "توفير" مشروع بيوت للشباب شبيهة ببيوت اليافعات الخاصة بالفتيات، فهم من وجهة نظرها "قادرون على تدبر أمورهم"، على أنها لا تمانع من مساعدة بعض من تخرج منهم قبل سنتين، بدفع إيجار سكنه لمدة لا تزيد على 3 أشهر شرط أن يعمل.
أطواق نجاة ولكن
في أول أيام عيد الفطر الماضي، نامت نرمين في أحراش الجامعة الأردنية بعد أن طردها مدير السكن الذي كانت تقطن فيه على خلفية شجار نشب بينها وبين إحدى المشرفات.
لم يشفع لها انتفاعها من صندوق الأمان المخصص لدعم خريجي دور الراعية من أن تبيت ليلة العيد في العراء، "ولم يتحرك الصندوق إلا بعد أن أمضت أسبوعا بلا مأوى"، حسب قولها.
من جهتها، تقر المديرة التنفيذية لصندوق الأمان لرعاية الأيتام مها السقا بعدم وجود آليات للاستجابة لبعض الحالات الطارئة، مضيفة أن العمل على إدراجها سيكون ضمن خطط الصندوق المستقبلية.
صندوق الأمان... حلقة مفرغة
تدور نرمين في حلقة مفرغة، إذ أن المصروف الذي تحصل عليه شهريا من الصندوق يتراوح بين 80 و90 دينارا لا يكفي لتغطية احتياجاتها من الطعام واللباس والكتب الدراسية والمواصلات، ما دفعها إلى العمل بدوام جزئي في احد المطاعم، الأمر الذي أثر سلبا على تحصيلها العلمي.
رسبت الفتاة في إحدى المواد الدراسية، فلم يكن من الصندوق إلا أن سارع بخصم ثمن المساق من مصروفها على أقساط كإجراء عقابي، وبالتالي انكمش المصروف إلى 40 ديناراً حتى يستوفى ثمن المادة.
تأسس صندق الأمان العام 2006 كجمعية خيرية تعنى بـ"توفير رعاية لاحقة لخريجي دور الرعاية ممن بلغوا سن الثامنة عشرة" كما ينص نظامه.
ورغم أن الفئة المستهدفة هي خريجو دور الرعاية، إلا أنهم لا يشكلون إلا 20% من إجمالي المنتفعين، حيث يقدم الصندوق خدماته لـ200 منهم من أصل 800 منتفع.
وفي نتائج الاستبيان، الذي أُجري لصالح التحقيق على 50 شابا وفتاة من خريجي دور الرعاية، تبين أن اثنين فقط من كل 10 أيتام ينتفعون من صندوق الأمان.
السقا فسرت هذه النسبة، بـ"تفضيل خريجي دور الرعاية الحصول على منح مالية أو سكن، وهو ما يتنافى مع سياسة الصندوق التي تشترط الالتحاق بدارسة أو تدريب قبل ذلك".
وتعلل أيضاً انعدام رغبة خريجي دور الرعاية بالانتفاع لدى الصندوق، بـ"انحدار مستواهم التعليمي التأهيلي وهم داخل الدور"، وهو ما أكدته كشوفات وزارة التربية والتعليم لمعدلات طلاب في أربع دور رعاية تقع وسط وشمال المملكة، حيث تبين أن متوسط علاماتهم يتراوح بين 45 و50 من مائة.
أيتام دور الرعاية... إساءة في الصغر... أمراض نفسية في الكبر
ثمة بعد نفسي أيضا لعدم قدرة الكثير من خريجي دور الرعاية على الانتفاع من برامج تأهيل صندوق الأمان، بحسب تقييم نفسي أجري لصالح التحقيق في أحد مراكز الرعاية النفسية.
التقييم، الذي خضع له 20 شابا وفتاة تخرجوا من دور الرعاية تم اختيارهم عشوائيا، كشف عن أن جميع من خضعوا للفحص "يحملون مفاهيم متدنية عن ذواتهم، ويعتبرون أنفسهم مرفوضين من المجتمع".
الفحص النفسي، الذي تنوعت أدواته بين المقابلات الإكلينيكية، مقياس بيك للاكتئاب، وقائمة مسح المشكلات النفسية، يظهر أيضاً أن معظم الحالات تعاني من "القلق، الاكتئاب وتحمل أفكارا عدائية وسلبية تجاه محيطها، نتيجة لما واجهوه في الماضي من إساءة وتهميش".
وشدد التقييم على "ضرورة خضوع بعض الحالات لبرنامج نفسي اجتماعي طبي متكامل، خشية لجوئها للانتحار أو الانحراف".
بدوره، يرى ضمرة "أن هذه الفئة بحاجة إلى تأهيل نفسي وشخصي مدته عام على أقل تقدير قبل دمجهم في المجتمع".
الأيتام... ضحايا المؤسسات أطفالاً... ضحاياها شباباً
صعوبة الاندماج تظهر جلية لدى جمانة (22 عاماً)، اسم مستعار لطالبة جامعية متفوقة من ضحايا التفكك الأسري.
تلك الفتاة ترفض أن تبوح لزملائها وأساتذتها في الجامعة أنها تربت في مراكز الرعاية، خشية الوصم الاجتماعي الذي عانت منه سابقا عندما رفضت عائلة الشاب الذي أراد الارتباط بها تزويجه إياها، فهي "ابنة مراكز" و"العرق دساس"، حسب وصفهم.
"المجتمع باختلاف شرائحه ينبذ هذه الفئة ويعاقبها على ما لم ترتكب" كما ترى الوزيرة لطوف، التي استدلت على ذلك بقلة أعداد المتطوعين في مراكز دور الرعاية.
فيما يفسر الخزاعي عدم تقبل المجتمع لخريجي دور الرعاية "بأساسية وجود الأب والأم والعائلة في مجتمعنا الأردني. فالسؤال عن هذا الثالوث بديهي في كل معاملاتنا، وأي فاقد لهذا الثالوث يعتبر شاذا عن القاعدة".
دينيا، يعد عدم تقبل المجتمع لهذه الفئة ووصمها وتعييرها تلميحا أو تصريحا أمراً مرفوضاً ولا مكان له في الشريعة الإسلامية، كما تنص فتوى صدرت عن مفتي المملكة الدكتور نوح القضاة، رد فيها على استفسارات كاتبي التحقيق حول الموضوع.
القضاة بين "عدم جواز اعتبار الأيتام نتاج عمل خاطئ أو بيئة غير سوية، وتجب معاملتهم باحترام، فالأيتام فاقدو الرعاية، وهم أمانة في عنق المجتمع، وأي ظلم يصيب هذه الفئة يوقع المجتمع كله في الإثم".
القانون يحول الأيتام إلى أحداث
تحاول الوزارة أحيانا استباق مرحلة التخرج، بالنسبة للذكور، عبر نقلهم إلى دور الأحداث للعمل مقابل 50 دينارا، كما حصل مع أسامة (26 عاماً)، وهو أيضاً اسم مستعار.
أسامة عيّن كمشرف متطوع في سن الثامنة عشرة، لكنه فعليا كان يعمل "مراقب استحمام" في دور الأحداث التي هرب معظم من عمل فيها من الأيتام، إما نتيجة الخوف من الأحداث الجانحين، أو لأن المكافأة على قلتها لا تصرف لأشهر طويلة.
الوزيرة لطوف أكدت إيقافها مؤخرا لهذا الإجراء، إلا أن هذا الإيقاف ليس قطعيا في ظل نصوص "قانون الأحداث" الذي يساوي بين اليتيم والحدث في كثير من الحالات.
وبالرجوع إلى قانون الأحداث رقم 24 لسنة 1968 وتعديلاته، يتبين من خلال المواد 31 و34 كيف يجد اليتيم نفسه حدثا.
فالمادة 31 فقرة 4 تؤكد أن القانون يشمل الأيتام، فيما تؤكد الفقرتان 1 و2 من المادة 34 على اختصاص محكمة الأحداث بالنظر في فترات إقامة الأيتام في دور الرعاية وتجديد مدة إقامتهم حتى سن العشرين في حالات معينة.
سريان قانون الأحداث على الأيتام أمر استهجنته مديرة دائرة الرصد والشكوى في المركز الوطني لحقوق الإنسان كريستين فضول، مؤكدة ضرورة إعادة النظر في المادة 31 فقرة 4.اريج