- يمكنك الاعتماد على وكالة العراب الاخبارية في مسألتي الحقيقة والشفافية
- رئيس التحرير المسؤول .. فايز الأجراشي
- نتقبل شكواكم و ملاحظاتكم على واتس أب و تلفون 0799545577
صيدُ الأمواج، ولا صيد الأرواح
بد الله طاهر البرزنجي موهبة ٌ ابداعية فذة ٌ، يُتقنُ بضعَ لغات، ويُحلّقُ ببضعة أجنحة أبداعية. هو شاعرٌ وناقدٌ ومترجمٌ. لم أعرفه قبلاً، وهذا قصورٌ وجهلٌ
مني. لكني منذ عدة سنوات قرأتُ بعض كتاباته، وآخرها ما كان ينشرها في موقع ايلاف / ثقافات /. وديواناً مترجماً من الكردية / ذات زمان كان الظلام أبيض / للشاعر الكردي طيّب جبار. وترجمته ترقى الى الذروة من حيثُ التماسك اللغوي، والأمانة في نقل الصورة الشعرية. وتأكّد لي أنّه مبدعٌ من طراز خاص / وممتلكٌ لغة ً عربية شاعرية صافية. حينَ التقينا مساء 24 فبراير 2011وجدته بسيطاً هادئاً متواضعاً يُصغي اليك أكثر ممّا يتكلمُ، ولا يقطعُ كلامَك، وترسّخ لديّ، أيضاً، انّه ليس من النماذج التي تثير حولها زوبعة ً وغباراً ليُلفتَ اليه الأنظارَ. بل يضطرك الى الإنصات اليه. إنّه في نظري أشبهُ بشجرةٍ لها ظلٌّ وارفٌ وثمرٌ طارفٌ جمٌّ، يحطُّ عليها الطيرُ والفراشات، وتتقاطرُ اليها أعينُ المُشاة وأناملهم. اذاً، هو استثناء زمنه، زمنٍ يتسابقُ فيه أنصافُ المُثقفين للإعلان عن بضاعتهم الفجّة. ويُفضّلُ أن يكون ضيفاً على الظلال، لاعلى الأضواء اللامعة، لن أستطيع أن أفي حقه، لكنّ نتاجَه الثرّ المكين يعبّرُ عن موقعه الثقافي الرصين. وفي ص 38 قصيدة ٌعنوانُها الفقرة ُ الأخيرة في آخرها، ففيها تلاعبٌ شكلي معنا ومع الزمن الذي يُلبسنا أقنعة ً، وله وجهٌ يتمرآنا وينظرنا، فنحنُ عميانٌ يقودُنا وفقَ مشيئته. وتتكرّرُ / أقنعة / تسعَ مرّات، والجملُ اسمية ٌمن مبتدأ القصيدة الا فقرتها الأخيرة التي تنتهي ب/ قال القدماءُ: للزمن وجوهٌ / وهي جملة ٌ فعلية. والجملُ الإسمية مكوّنة ٌ من شبه الجملة التي هي الخبرُ المقدم، والمبتدأ المتأخر النكرة.هذا التلاعب الاُسلوبي دال مستترٌ ينطوي على دوال اخرى تتوالدُ منه. فبدلاً من أن يقولَ: الزمنُ سائقنا الى مصائرنا، يقودُنا أنى يشاءُ وأين يشاء. وليس بمقدورنا أنْ نُغيّر شفراته السرّية. فله وجهٌ فيه عينان مبصرتان،يتمشى بنا في أروقة المصائر. ولنا أقنعة ٌ تعمينا عن التبصّر.. صفعنا البرزنجي ب / ولنا أقنعة / فكرّر المبتدأ المتأخر ثماني مرّات، إمعاناً في اليأس المُغلق الذي لا يتصلُ به بصيصً أمل. إذاً، الزمنُ قامعُنا ومُذلّنا يقطع وتر غنائنا وبكائنا. ولو تابعنا فحوى هذه القصيدة لأدخلتنا في متاهات جدلية حول القضاء والقدر. لذلك رمانا الشاعرُ في متاه مجهول وجعلنا نسعى في مناكبه بغير هدى ولا تبصّر.
وأمامي ثلاثة ٌ من كتبه المترجمة الى العربية:
- صيدُ الأمواج، ديوانٌ شعريّ له.
- شذرات قوباد، نصوصٌ شعرية للشاعر الكردي قوباد جلي زادة.
- من ثقب الباب، نصوصٌ شعرية للشاعر والناقد الإيراني شمس لنكرودي.
سأبدأ بالكتاب الأول، كونه نصوصاً من شعره الكردي ترجمها بحِرفية عالية الى العربية، وفي ظنّي أنّ ذا الكتاب يتفوّق على كتابيه الآخرينِ لأنّه يعبّرُ عن نفَسِه الشعري، فهو أدرى بشِعاب شاعريته. وينقل الى القاريء العربي مكوّنات هواجسه بصدق وأمانة خالصين. وممّا يزيد من رصيد هذا الكتاب الشعري أنّه اختار من شعره ما هو لصيق ٌ بفكره وضميره. سنلتقي في هذ ه القصائد المترجمة الى العربية خمساً وثلاثين لوحة تنطوي على تجربة حياتية خصبة، وفي أزمنة قريبة وبعيدة. وقصائده، كلها، تحرثُ في اُفق حداثيّ خرجت على أطواقها التقليدية شكلاً ومضموناً. فتوخي الحداثة لا يتأتى من أطار النص الشكلاني، بل من نسيج صورها وأحداثها. نعم كلُّ قصيدة لوحة، وكلُّ لوحة لا تُشبهُ سواها. كما أنّ ضرباته الحداثية تبينُ وتظهرُ في موضوعاتها المُبتكرة الموغلة في فردانية غير مسبوقة. ولنسمعْه في تلال الوهم:/ معاول، حدائق / وثمةّ وشيجة جدلية بين الحقل والمعول / بيدَ أنّه يُفاجئنا بانفصام هذه العلاقة الحميمة بايقاع فاجع:/ حدائقُ تختفي وتزولُ / ثمّ.......تشمخُ تلالُ الجشع / ص7.. لقد صدمنا وصفعنا واضرمَ طوفاناً في دهشتنا. فتلالُ الجشع تنطوي على دلالات رمزية تؤولُ وفقاً لمنظور كلّ أحد ٍ منا. انّه يحزّ هنا عرى الصلة بين العطاء والجهد المبذول. وفي قصيدة / تفاني الأضداد / يصعقُ يوافيخنا بهذ الصورة غير المتوقعة،التي لا تمرّ ببال أيّ منا:/ عند مرفأ / يبصرُ فتاة / من ماء / فلو قال البرزنجي عبد الله قبل نصف قرن: فتاة من ماء لرموه بالشطط والحجارة. وفي قصيدة (.........) ص10يأخذنا، لا الى نزهة نزقة، بل الى: تمحو شفتانِ / ثلجَ مسافة النوى/ ينزّ س...ه....مٌ / بأحرفه الثلاثة العمودية النازلة تُجاه مرماه. ثمّ....طيورُ قُبَل حمراء / ت..ت...ه..ا..و...ى / لتتشظى مثلَ حبات البَرَد. لستُ بصدد الكلام عن شكلانية القصيدة بقدر دهشتي من سطوة الشفتين في الغاء المسافة بين كائنين مُحبين. الشفتان تخترمان المدى مثلَ سهم طائش لا ينالُ مراده. والقبلاتُ في المقطع الثاني استحالت طيوراً حمراء. وحين طاش السهم لم يصب سوى طائر فأدماه واسقطه من عليائه مُثخناً بدم جُرحه. وهاتان الصورتان مبتكرتان لم أقرأ مثلهما قبلاً.
أمّا قصيدة / موضة / فهي لوحة من نسج المخيلة، تأتي الريحُ لتُحرّكَها، وتتمايلُ عليها الجماجمُ التي تتشظى الى مِزَق تُساقُ الى ميسرة المرأى.ص19. فحبالُ الغسيل تكرّرت ستَ مرّات / عليها تتأرجحُ ا..ل..ج..م..ا...ج...مُ.../ التي هي جماجمُنا، نحنُ الاُلى تزحمُ حلوقُنا بالرفض والإحتجاج..لكنّ الآخرَ، القامعَ ضوءَ مسراتنا، لا يسمعُ صوتَنا، بل يقطفُ رؤوسنا وينشرها على حبال الغسيل. القصيدة ُ هندسة ً وتشكيلاً ومضموناً، ص21، 22 / وهي ترمينا بمزق الجماجم، مثلُ رصاص عشوائي مُنهمرٍمُميت / من أجمل الشعر وأحدثه.
وقصيدةُ / الحكيم / لوحة ٌ بليغة تقطعُ دابرَ ذهولنا ص21: الثلجُ جادلَ رأسي..ف..س..ا..ل..من منخر الربيع / كنتُ افصّلُ كلمة محجر أو نظر الربيع / لأنّ ما يسيلُ من المنخر لا يشي عن عاطفة، بل عن داء وتوتر. لكنّ الصورة صادمة ٌوطائشة تخترقُ بلادتنا واسترخاءنا.
أمّا قصيدة ُ / تعويذة / ص 26 فيأس يبحثُ عن أمل، عمىً يتخبّطُ بحثاً عن وميض نور: / أعوذُ بالجسد من برق حرابهم / أعوذُ بالحفرة من فضاء المذلة..../ بلحمي أعوذُ من أفواه المديات / انّ هذه المقاطع الثلاثة تهجرُ واقعها التراجيدي الى مدى سُريالي عابث، تروم أنْ تختفي عن العيون، وتحتفي بالهرب من الوجع الى الوهم الخلّاب. وحين نترك غبارهذا المتاه الذي يهرس أدمية الأدمي نلتقي وضعاً آخر من الحياة، فيلجُ بنا البرزنجي في متن قصة نحن نسغُها وعجينها، قصّة قصيرة جداً، لكنْ محشوة بدوال عميقة تطحن كياناتنا البشرية والأجتماعية، القصة ُ من ثلاث فقرات ص 27 / عصفورٌ يتأملُ فوق سِلك/ مستغرقٌ حتماً في حلم أسيان / صبيٌّ يلتقطُ حجراً/ ليرجم حلم العصفور ويُحطمه / رجلٌ كهلٌ ينتهره / دعْه أيّها الصبيّ ولا تقطعَنّ نسيجَ حُلمه / فحاستُه الشعرية تلتقطُ كلّ لحظة استثنائية وتخلدُها في وضع ٍ غير مسبوق اليه.
وقصيدة ُ / لقاء/ ص30 رغبة ٌ مستحيلة أشبهُ بآهة لا يُمكنُ اعادتها الى مصدرها / فقد تكرّرَتْ عبارة ُ: / الساعة ُ الخامسة ُ والعشرون / سبعَ مرّات، بقدر أيام الاسبوع. وهذا الوقتُ خارج مسلمات الزمن.اذن، كلُّ ما يتمناه المرءُ لايُدركُ أبداً مثلَ هذه الساعة المرمية وراء سور الوقت.
أمّا / التمرّدُ/ ص41 فقصيدة ٌتتفاقمُ فيها الأماني المستحيلة وتسقطُ في قاع أظلم / متى تتمرّدُ الدروبُ على أقدام المشاة؟ / والأزهارُ على أسوار الحديقة ؟ / وكذا القمرُ والشمسُ على وضعهما. فهذه معادلاتٌ تتوخى تغيير الحال الذي يرقى الى المستحيل. فنحنُ مقموعون في بلادنا من أقاصي الوجع الى أقاصي اليأس. واذا اردنا أن نغيّر فلا بدّ أنْ نبدأ من ثوابتنا الأزلية المبنية على الخطأ والباطل، ونتسلح بارادة تقلعُ الطغاة من جذورهم. لكنّ وراء كلّ طاغ قوىً باطشة هي التي تصنع الطغاة وتزجّ بهم الى قمعنا وتصفيتنا. وما صرخة ُ البرزنجي سوى صفير في متاه مغلق لا يسمعها أحدّ...
وفي / العدم / ص42 يُطُلق الشاعرُ عليه وعلينا رصاصة الرحمة، التي تُسكتُ ما بقي فينا من أمل:/ امنحني أقراصَ الموت...اُسكتْ بها وجعَ الحياة / القصيدة ُ من سبع كلمات هبطت من عليائها زخات رصاص قاتلة. ولا يقطع شريط الموت سوى الحرية والعدالة، وكلتاهما اُمنية بعيدة.
وفي / شموشٌ تناثرت / حنينٌ الى الطفولة وأيامها الليلكية حيثُ يكونُ المخلوقُ، أيّاً كان، بعيداً عن الهم واشغال الذهن بتفصيلات الحياة فقراً ومرضاً وقهراً. في الطفولة تغيبُ الحسّاسية والألمُ، وأعمالُ الفكر. كلُّ شيءٍ سلسٌ طائشٌ مُتمرّدٌ مثلُ الحلم العابر. لكنْ، كلما توغلتْ خُطانا في العمر ازددنا احباطاً. ولا نُرانا الا في مُعتقل كبير يُسوّرنا ونسمّيه الحياة. لنسمعْه ص 43/ صُ...ف...ر..تُ....ه...ا / نثرَ حروفها كما لا أحدَ يهتمُ بنا / سبحة ٌانفرطتْ ح..ب...ا...تُ...ه....ا / في قاع الغياب / فنحنُ مُغيّبون شئنا أم أبينا. ثمّ يُكرّرُ / طفولتي / ثلاثَ مرات مثل آهة وجع أو حسرة على ما فات. أغلبُ قصائد هذا الكتاب تكتظُ بسوداوية قاتمة، الا أنها صرخات احتجاج وتمرّد وثورة كما لو خرجت من قاع بئرعميقة.ويُذكّرني بمقولة تترددُ على ألسنتنا / من رأى منكم مُنكراً فليغيّره...الخ.
وبعد 30 قصيدة من الوجع والصداع النبيل المشوب بالمستحيل، والحثّ على كسر الحواجز والأسوار والتمرّد على ما هوسائد على الرغم منا نلتقي نصّاً يتحدّثُ فيه عبد الله البرزنجي عن نفسه قارئاً نصوصه من خارج ذاتيته، كما لو كان غريباً لا مُنتجاً لها. فهو يستبطنُ بهذه القراءة الحيادية ابداعه ويُواجهُ شاعريته وجهاً لوجه، ليتعرّف الى حقيقته ويتوقف عند هناته. هذه الحالة ُ امتحانٌ، بل تصفية ٌ للذات الشاعرة من أجل التجديد والبحث عن محطات مستقبلية للإنطلاق الى آفاق اخرى. انها تجربة ٌ رائدة ٌ يعتمدها الشاعرُ لتشخيص زلاته في مرآته التي لا تزيّف ولا تُجاملُ.
ثم تلي هذه التجربة النقدية قصيدة ُ / الجدار/ التي تتجحفلُ بمعطيات حداثية، يجرحُ فيها شاعرُنا جدران أيامنا التي تسوّرُ حيواتنا من مبتدأ الطفولة حتى دبيب الكبر فينا وتلاشينا. الجدارُ في كلّ مكان، فأينما نولّ وجوهنا نصدمْ به، وبين ضلوعه نشأنا وكبرنا وتعلمنا وسُجنا، وعلى الرغم من أنّ الجدارَ جدارٌ أينما كنا، لكنّ جدران السجن غير جدران الحياة،بين أضلاع الأولى نّذلُّ ونُقمعُ ونذبُلُ وننتهي، وبين الثانية نتعايشُ ونتناسلُ، ونخرج من أبوابها الى فسحات الحياة.، وتجيئنا النسمةُ ُوالضوءُ عبر نوافذها. مع ذلك يذهبُ البرزنجي الى أنّ الجدارَان هي نفسها أينما حللنا وكنا. ولنا بين فراغاتها تأريخٌ وحياة ٌ وأهلٌ من لحمنا ودمنا. بعضُهم غابوا وأفلت ظلالُهم وآخرون غادرونا الى أصقاع بعيدة، وبعضُ بعضهم يعيشون معنا. ولنسمعْه: / الجدارُ ثيابُنا للنوم، فواكهُ للهدوء / ص48. يقلقُ علينا أكثر منا /...يرفعُ لنا قبعتَه باسماً / ص49 / الجدارُ من فرط حزنه على الغائبين أُصيبَ باليرقان / لنرحم الجدارَ / ص50، الا تشاركونني الرأي أنّ الشاعر منح الجدار روحاً تنبض بالحسّ والعاطفة كما لو كان فرداً من العائلة ؟ فصار يقلقُ علينا، ونقلقُ عليه.
في قسم آخر / هو الثالث / ص56 أولج بنا في ثلاثة عوالم شُيّدتْ وفقَ معيار حداثي خارج اطر المألوف المُتعارف، أوّلُها الأعمى: دائماً يرنو.....ولا يرى الا الظلام. وبين الجملتين تكررَ الفعلُ المضارع / يرنو / تسعَ مرّات. نازلاً من الأعلى الى الأسفل. وعلى الميسرة جاء يرنو / عمودياً / اربعَ مرّات اخرى. هنا يضعنا البرزنجي في متاه عصيّ، والأعمى أنا وأنت والآخرُ، فنحنُ عُمينا ولن نُدرك الحقيقة أبداً. نتخبط بعشوائية، وكلُّ أحد منا يمضي الى مكان ما. لقد رسم بجمالية وسوريالية وتراجيدية آسرة عمانا الأزلي، لكنه ترك الاُفقَ مفتوحاً قائماً مدى الحياة.
والثاني هو / الساعة / أشبهُ بامرأة طاعنة في السن تعملُ بلا كلل أو سأم ولا تتوقفُ. وهي في ذات الآن صبيّة ٌ تعدو خللَ الفصول، بأيامها وأشهرها / امرأة طاعنة ٌ في السن، صبيّة ٌ تعدو في حقول الفصول / ص57...وكأنّي بهاتين الجملتين موضوع يطرحه الأستاذُ على تلاميذه في درس التعبير. فكلّ تلميذ سيعبّرُ عنه وفقاً لايقاعه المزاجي أو المعرفي. لقد رمانا الشاعرُ بحجر واصاب عديداً منا، ولمّا يزلْ بعضُنا الآخر ينتظر دوره.
أمّا / الأرضَ / القصيدةُ الثالثة ُفمعادلة ٌ تجسّدُ شموخ الأرض وتهافتنا وضعفنا: / على كتفيكِ / لشموخنا / نرفعُ القصور والجسور / لكنّكِ الأعلى / كلنا حُفرة ٌ تحتَ قدميك / ص 58، ففي عبارة مقتضبة يقول لنا البرزنجي: كلما تعالينا وغشينا الغرور والاستعلاءُ فنحنُ في النهاية نثوي في حفرة تحت قدميها، لاحظوا العبارة الأخيرة، كأنّ اسافل الأرض أعاليها، وأعاليها أسافلها. ونهاياتنا تحت أقدامها ثمة َ نستحيلُ الى رميم.
ولآنّ الشاعر تحدّث عن هذه القصائد الثلاث من منظوره النقدي والمعرفي بحيادية وعلمية صارمتين كما لو كان شخصاً آخر يتناول نصوصاً غريبة. فلن أستطيع أن اضيف الى مقولته قولاً آخر.
أخيراً نختتم هذا الديوان المترجم الى العربية من الكردية بقراءة قصيدتين كُتِبتا بنفَس شكلاني حداثي: هبط القمرُ / نصب لمنزل الموتى مصباحاً / انحنى الجبلُ / مسّد بيد الحنان / ضفائر التلال/ ويستمرُّ جريان القصيدة لا مثل ساقية تتهادى، بل كشلال هادر تسقطُ من الأعلى الى الأسفل. الشيءُ الأغرب في القصيدة أنها تنتهي بهذه العبارة / ما زلتُ أسمعُ قهقهة البنادق / "والبنادق "هي عنوانُ القصيدة جاءت خاتمة لها.
والثانية ُ قصيدة تجرى مجرى الضربات الدادائية فجعلها / شكلاً هندسيّاً / أشبه بحدوة الحصان، دائرة ٌ مبتورة من الأسفل، تقول حدودة ُ الحصان / القصيدة ُ / تُكرّرُنا المرايا والطريقُ يكرّرُنا الليلُ والنهارُوالفصولُ والمأكلُ تُكرّرُنا الدائرة ُ والأنجابُ المُعانقة ُ والبيت / ثمّ يختم مقولته ب / لا شيءَ يُجدّدُنا سوى الموت / ونلاحظ أن القصيدة أشبهُ بمرآة مُدوّرة لها مقبض وهو الفقرة الأخيرة التي تنتهي ب / الموت / اذاً، نحنُ أطيافٌ وصورٌ نتمرأى على سطحها، فمهما جُلنا بين الطرقات والأيام والفصول وعشنا وتناسلنا وتعلمنا فانّ المآلَ هو الموت الذي هو نهاية النفق. كما أن الجملَ التي تؤطرّالدائرة بلا نقاط أو فواصل، وكأني ب / البرزنجي / يُنبهنا الى أن الحياة بمُرّها الكثير وحلوها اليسير لهاثٌ وهرولة الى متاه بعيد، فليس بوسع المخلوق أن يستريح في محطة ويحظى بلحظات أمن. هذه اللوحة تفجعنا وتصفعنا وتُنزّلُ علينا الصواعق والرجوم وتنبهنا الى غفلتنا. فلماذا، اذاً، هذا الإحتراب والقتل والتصفيات الجسدية واكتناز المال واقصاء الآخر ما دمنا جميعاً نلهثُ نحو حتوفنا ضمن هذه المرآة / الحياة / ؟؟
تمتعتُ بقراءة هذا السفر العجائبي الذي أبان حقيقة مصائر الشعب الكردي الذي ما أن يخرج من دائرة طوفان نارية حتى يستقبله طوفان ثان وثالث. فلا أظنّ أنّ شعباً آخر مثله داهمته كوارثُ حروب همجية وتصفياتٌ شوفينية راح ضحيتها آلافٌ آلاف عبر سنوات نضاله. لكن الشعوب، مادامت حيّة تناضل، لا بدّ أن تنتصر في النهاية. وآن الأوان أن نضع مرآة َ البرزجي جانباً ونتطلع الى افق المستقبل.
لقد اثارَ شغفي خللَ قراءة هذه النصوص الشعرية عباراتٌ بودّي لو يقرؤها الجميع مثل:
- آذانٌ ترقبُ يداً / تفتحُ المزلاج / ص12.
- يحتسون سلافة الوقت / ص 13
- يمنحوني قبلات حمراء / ص13
- يرشّون رياح أفواههم على الشموع / ص 14
- واصابعُك مددتها لحديقة فلدغتها زهرة ٌ /ص17
- أينَ لسانُك؟ ذاتَ يوم دفعته ثمناً لكلمة /ص 17
- اصغوا اليه، الصمتُ يتكلمُ ص22
- كلُّ سماء / تُذكرني بسقف زنزانة / كلّ درب ممرُّ سجن صغير / ص 24
- أصرخُ أصرخُ / لا اذنّ في رأس هذا العالم الكبير / ص 36
- بطني تنهشه ذئابُ الجوع / وكلُّ ثمار الأرض / في الاسطبل المُخصص لحصان الأمير / ص 37
واذا كان عنوان الكتاب / صيد الأمواج / فقد حقق عبد الله الشاعرُبغيته، وأغلبُ قصائده غشيتها تموجاتٌ صاعدة نازلة، مائلة ٌ الى ميمنة وميسرة، تمرّ بجدلية المدّ والجزر، والرعد والبرق... القصيدة ُ هي / البحرُ/ هادئة ٌ آناً، ومتمرّدة ٌ آناً آخر، وعصيّة ٌ وقاتمة ٌ، ومُضبّبة ٌومضيئة ٌ، حلوة ٌ ومرّة. الشعرُهنا بحر ٌ، والبحرُهو القصيدة ُ، لها أمواج وأجنحة ٌ، لكنها بعيدة ٌ عن الفرح الذي يضيء مسراتنا الشاحبة.