- يمكنك الاعتماد على وكالة العراب الاخبارية في مسألتي الحقيقة والشفافية
- رئيس التحرير المسؤول .. فايز الأجراشي
- نتقبل شكواكم و ملاحظاتكم على واتس أب و تلفون 0799545577
فك شيفرة منسف الميت ! / بسام الياسين
بقلم الاعلامي .. بسام الياسين
كنا في صالة عزاء،نصغي باعصاب مشدودة الى خطيب جليل، يتحدث بصوت رخيم ولغة جنائزية عن معاناة الانسان و عبثية الحياة :ـ {{{ وخلقنا الانسان في كبد}}} .حياة مملوءة بالنكد والمكابدة،منذ الصرخة الاولى حتى شهقة الوداع الاخيرة والخاتمة المأساوية بإهالة التراب على الجسد الذي سيأكله الدود،موثقاً موعظته الرنانة بآيات كريمة و احاديث شريفة.نادباً بحظ الانسان حامل الامانة بان مصيره حفرة مظلمة وبرزخ بلا نهاية،لن يَفتح منَّ يتوسدها جفنه الا عند النفخة الاولى، إيذاناً بقيام القيامة.يومئذٍ ينسلُّ الناس من القبور كالجراد المبثوث،شُعث الرؤوس،غُبر الابدان وقد افزعتهم النفخة حتى وهم رمم في مراقدهم:ـ {{{ ونُفخ في الصور فاذا هم من الاجداث ينسلون }}}.تغيرت ملامح وجه الخطيب وامتقع لونه عندما استعرض المشهد المؤثر{{{ فاذا نقر في الناقور * فذلك يوم عسير }}} .
حدث عظيم لو تعلمون و يوم طويل يُحشر الناس اجمعون بارض المحشر،فلا اموال،لا بنون،لا صكوك غفران الا من اتى الله بقلب سليم، وكان من المُخْلَصين ذوي النية الطيبة ـ حجر الاساس في العبادة ـ مشدداً على مراقبتها لحظياً لان نقاء النية عنوان الايمان،وهو ما وقر في القلب وصدقه العمل.ثم تدارك النفس بكثرة الاستغفار والتواجد حيث يحب الله ان يرى العبد الصالح فيها .
مسدَّ لحيته بيده اليمنى ثم اردف قائلاً وهو يزم شفتيه قرفاً من الدنيا و افاعيل اهلها :ـ الحياة ركض بلا جدوى. رحلة بين التيه و اللا معنى،سلالم بلا درجات،جياع حول اطباق فارغة،حلوى بلا سُكر،طبيخ بلا ملح. بعدها قفز للتنظير الفلسفي المجرد قائلاً بلهجة تهكمية:ـ انظروا كل ما نراه ظلالاً كاذبة.فعند اغماضة الموت كأنك لم تر شيئاً ولم تكُ شيئاً.عدم محشو باحلام عدمية.الحياة هي ملهاة اللاهثين خلفها،لعبة الحمقى الممسكين كالاطفال باذيال ثوبها. اصدقكم انني امام هذا الموقف الجلل تحتشد الاسئلة في راسي كاسراب النمل متسائلاً ، هل جئنا نزوة ام هو القدر ؟!.مهما تكن الاجابة فان علة وجودنا العبادة وخدمة بعضنا بعضا، رغم ان واقع الحال ينطق عكس ذلك. صرنا عبيد شهواتنا والفهلوة ان نعرقل من يقف امامنا ـ انها اللعنة ـ التي حبست ماء السماء،وانتشر القتل لإتفه الاسباب،فلا عجب ان نرى احزمة البؤس تطوق مدننا و ا حياء المعدمين داخلها.
قلب الخطيب ورقة النوتة الموسيقية الحزينة الى اخرى نفاقية، وبصوت محترف،راح ينشج وهو يعدد مناقب الميت الذي كان في الحقيقة، انساناً عادياً استدعته السلطة ذات يوم، من هامش معتم، ووضعته في دائرة الاهتمام،تقام له الولائم،ويقص الشرائط،ويجلس في صدر المجالس لينفذ اجندتها.فكان ـ يرحمه الله ويا سبحان الله ـ خير نافذ و متنفذ وتنفيذي ينفذ المطلوب بحذافيره، فلا شيء يخيفه او يخاف عليه سوى ان تعيده السلطة الى هامشه نكرة حيث كان و جربوعاً مثلما كان،لكن الخطيب ـ رغم معرفته به ـ اغرقه بصفات عزَّ نظيرها الا عند الاولياء :ـ {{{ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنّزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون }}}. ظن الناس ان مدح المتوفي من باب اذكروا محاسن موتاكم واطمسوا سيئاتهم،لكن الجرعة النفاقية زادت حتى ضاق القبر بالممدوح.فقد رسمه هرقلي البنية،مديد القامة،اغريقي العضلات،مع انه ناحل البدن، قصير القامة،اصلع الرأس خلا شعيرات قليلة منثورة عشوائياً على مؤخرة رقبته مثل ديك هزيل،استنفذ فحولته وهو ينهل من ملذات الدنيا دون التفات الى حلال او حرام .
في القاعة الواسعة،الكل ارخى اذنيه للمتحدث الشهير بزخرفة عباراته و اسباغ الاثارة على امواته،حتى انك تسمع دبيب النملة فيها. فجأة،انفجر ابن المتوفي البكر باكياًـ لفرط تأثره بالخطيب الذي أُوتي جوامع الكلم،وقال له:ـ شكراً سيدي،ما كنت اظن ابي هكذا.ثناء شجع الخطيب على الاسترسال في قصصه عن المرحوم ،فاختلط الامر هل هي مختلقة ام من بنات افكاره، حتى تمنى من لا يعرف الميت لو كان له شرف معرفته. حينذاك تحولت القاعة الى خلية نحل كلٌ يطلب الرحمة :ـ { ربنا اغفر لنا ذنوبنا و اسرافنا في امرنا وثبت اقدامنا } . { ربنا نسألك الفوز بالجنة والنجاة من النار }
.فضول دفعني لسؤال قريب المتوفى الذي يوزع الماء والتمر في الصالة عن هوية الخطيب فقال:ـ انه لا يعرفه كما ان الخطيب لا يعرف المرحوم.كل ما نعرفه عن الخطيب انه دائم الحضور في صالات العزاء، يشيد بالاموات جميعاً،و بذات العبارات المكرورة دون ان يعرف سيرتهم،وكل شيء بثمنه تحت بند:ـ اكرامية،صدقة،حسنة.ويقال على ذمة بعض الاشخاص انه يغني ليلاً في بعض البارات واعتقد ان هذا افتراء على الرجل لان في صوته بحة غير مستحبة
فجأة راى الحضور المناسف المجللة باللحوم واشتم بعضهم رائحتها وهي تدخل الصالة مرفوعة بوقار على الايدي.ما زادها اثارة ان بعضها مزينة برؤوس فاغرة افواهها وهي تعض على ضمة بقدونس.حينذاك نسي الجمع المأتم، وتدافعوا بالمناكب صوب المآدب،منفضين من حول الخطيب كقطيع داهمه ذيب،مشمرين عن سواعدهم للاكواع في مشهد مثير للغثيان، كأنهم في مجاعة من اعوام الرمادة.فانقلبت الايدي المفتوحة للدعاء الى مغارف للرز و الاسنان المصطكة فزعاً من الموت صارت سكاكين تفرم اللحم،ولان الذبائح هرمة قاسية اللحم آثر القوم بلعها بلعاً.اللافت ان الخطيب لم يمتعظ من الانقلاب عليه وانفضاض جمهوره من حوله.فانقض هو الآخر على اقرب منسف.تناول هبرة على عجل دون بسملة او حوقلة و ازدردها من غير نتش ولا طحن.فتوقفت ـ الملعونة ـ في بلعومه و كادت ان تخنقه لكبر حجمها.
من حُسنِ حظه ان مُسعفاً برتبة عريف في الدفاع المدني،متخصص في الاسعافات الاولية، كان يقابله على ضفة المقابلة من المنسف، اسعفه فوراً بان اوسعه ضرباً على ظهره، حتى خرجت القطعة من المنطقة الحرجة، ثم سحبها باطراف اصابعه.ولما استرد الخطيب انفاسه،وهدأ اضطرابه،،نظر الى اهل الميت المتحلقين حوله بعيون غائمة قائلاً:ـ لُعنت مناسفكم …لحومها عصية على المضغ،صعبة على البلع، ولولا ان تداركني الله برحمته،وسّخر لي عريف بالصدفة، لكنت في ذمة الله…نصيحتي لكي تهدأ روح ميتكم ،ان تطيًبوا طعامكم بلحوم طرية، ليتّرحم المُعزون عليه ،و الا بقيت نفسه محبوسة في قبرها.المناسف صدقة ان طاب مذاقها وارتفع صنوبرها وحَسُنَ لحمها، زاد ثوابها ورُفع المتوفى بها درجة فوق درجة حتى يحُشر مع المُحسنين في اعلى عليين.