تبدو قصة مؤسس سلسلة المطاعم العالمية الشهيرة "كنتاكي" الكولونيل"هارلند دافيد ساندرز" الذي ولد في أمريكا عام 1890 وتوفى عام 1980، غريبة وملهمة ايضاً كونه عاش يتيماً مع والدته وأخيه وأخته تحت خط الفقر حيث أن والده توفى ولم يبلغ هو سن السادسة، ما أضطر والدته للعمل من أجل كسب الرزق فتركت رعاية طفليها لإخيهم "هارلند" ذو الستة أعوام، فإكتسب جراء ممارسته لإعداد الطعام لإشقائه خبرة عالية في فنون الطبخ ومع عشقه له أتقن كل المهارات والفنيات التي تلازم إعداد الطعام والوجبات، ما نتج عنه في النهاية وصوله للخلطة السرية الشهيرة لقلي شرائح الدجاج والتي تميزت بها "كنتاكي" عن كل مطاعم الوجبات السريعة في العالم، وفتحت له هذه الخلطة الباب لدخول عالم الإستثمار في المطاعم بأمريكا ولم تكن البداية المأسوية لحياته حاجزاً يقف بينه وبين تحقيق النجاح والشهرة وتعلم من هذه المشقة التي قابلته وهو صغير العمر كيف يواجه المستحيل، وبعد تأسيسه لأول مطعم خاص به تعرض لنكبات كثيرة كانت كفيلة بأن تجعله يكتفي بالعمل كموظف براتب شهري، ولكن هذه العقبات لم تهزه أبداً بل واصل طريق كفاحه حتى وصل لما وصلت إليه هذه الخلطة السحرية في عام عام 1940 والتي مزج فيها 11 نوعاً مختلفاً من البهارات والتوابل وهي نفس الخلطة التي ما زالت تعتمدها سلسلة مطاعم "كنتاكي" في 11 ألف فرع لها حول العالم ...
والتقرير الذي نشرته جريدة البيان الإماراتية على موقعها الإلكتروني يوم امس ليس تقريراً لإلقاء الضوء على سيرة رجل فحسب إنما يحمل في طياته أموراً كثيرة تعود بالفائدة على من يريد أن يعتبر بالتجارب التي تحدث في العالم من حوله، وتمثل هذه التجربة كغيرها من التجارب الناجحة التي حققها أناساً عانوا في حياتهم قبل أن يرتقوا بأنفسهم إلى مراتب رفيعة ومميزة في عالم المال والأعمال أو حتى في المجالات الحياتية الأخرى، تمثل رسالة لكل من أصابته لعنة "اليأس" من خلال تجاربه الكثيرة التي تعرضت للفشل، فأضحى أسيراً لليأس والإحباط مع الإحساس الدائم بعدم القدرة على النجاح ، وكأن "هارلند" من خلال هذه المسيرة الحياتية الشاقة يريد أن يقول: " إن الحياة لن تتوقف أمام أول عقبة تعوق مسيرتها" ..
وبالرغم من كثرة المشاكل التي تعرض لها "هارلند" إلا أنه لم يستسلم لها وقرر مواجهة مصيره بكل شجاعة وعزة ليواصل طريق النجاح بلا كلل أو ملل .. وفي كثير من الأحيان كان كمن "يمشي على الأشواك وهو حافي القدمين" ولم تعجزه الجراح ولا النزيف عن مواصلة السير والترقي في سلم الحياة، فبعد كل هذه المصاعب التي واجهته إستطاع أن يكمل دراسته الثانوية ليقرر بعد ذلك الإلتحاق بالجامعة ودرس القانون، وأثناء دراسته في الجامعة لم يترك مجالً للعمل بعد دراسته إلا ودخله فعمل في الجيش والمطافئ والمزارع وكراجات السيارات، وواصل مسيرته في مجال الأعمال بعد أن تخرج من الجامعة حيث عمل محامياً في إحدي الشركات حتى وصل به الحال لشراء محطة لخدمة السيارات في ولاية كنتاكي، وربما كان شراءه لهذه المحطة هو الطرقة الأولى على باب الثروة والشهرة العالمية فكانت أول مشروع يمتلكه، وبعد أن بلغ سن الـ 39 عاماً إشتكى له أحد أصدقاءه من أنواع الطبيخ الرديئة التي تقدمها المطاعم في ولاية كنتاكي، وكانت هذه الجملة العابرة مجرد تذمر صديق أراد أن يفضفض لصديقه ليس إلا، ولكن هارلند إلتقطها بذكاء لتكون اللبنة الأولى لفكرة إنشاء مطعم للوجبات اللذيذة بالمدينة يستطيع من خلاله أن يقدم خبرته التي بلغت 33 عاماً في إعداد الطعام، وفعلاً بدأ التخطيط بتحويل إحدي الغرف الموجودة بمحطته إلى مطعم يقدم وجبات شرائح الدجاج المقلي والبطاطس والخضروات، وإتسعت شهرة المطعم في المدينة خلال شهور من إفتتاحه، ليصبح بعد ذلك من أشهر المطاعم في المدينة ما جعل الرجل يقوم بإغلاق محطة خدمات السيارات وتحويلها إلى مطعم تحت مسمى "كافي ساندرز"، ولانه كان يقدم الدجاج بخلطته القديمة تلك من خلال قليه في الكثير من الزيت، ما دعاه لإكتشاف طريقة سرية لقلي شرائح الدجاج بدون الزيت.
ولان هارلند قدم مسيرة حياة إسثتنائية قام حاكم ولاية كنتاكي في عام 1949 بمنحه رتبة كولونيل تكريماً له، وبعد ذلك بأربعة سنوات قدم له الحاكم عرضاً لشراء مطعمه "كافي ساندرز" بمبلغ 150 الف دولار غير أنه رفض هذا العرض وفضل مواصلة مشواره، ولكن دائماً تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فبعد فترة من عرض الشراء تعرضت المدينة لإعادة تخطيط وتغيرت الشوارع الرئيسية فيها وأصبح المطعم جراء هذا التخطيط بعيداً عن مناطق الكثافة السكانية ما جعل عدد ربائن المطعم يتضائل كثيراً فقرر بيعه للحاكم مقابل نصف السعر الذي عرضه عليه في المرة الأولى..
مشوار النجاح
بعد بيعه لمطعمه الكبير في المدينة سعى هارلند لتطوير خلطته السحرية والقيام بتسويقها للمطاعم الأخرى غير أنه وعلى مدار سنتين لم يستطيع إقناع أكثر من خمسة مطاعم فقط، ولكن ذلك لم يثنيه عن مواصلة مشوار النجاح فاخذ يسافر من مدينة إلى اخرى ومن ولاية إلى ولاية ليتمكن بذلك بتسويق خلطته ما جعله يستعيد عافيته مرة أخرى ليقوم بعد ذلك بتأسس سلسلة مطاعم "كنتاكي" التي حققت إنتشاراً ملحوظاً في أمريكا ليبلغ عدد فروعها 200 مطعماً، ما جعله يعمل على تطوير عملية إعداد شرائح الدجاج وطريقة قليها التي كانت تستهلك 30 دقيقة لتصبح جاهزة للزبون وهذه المدة ربما تسببت في خفض أعداد الزبائن خصوصاً في مطاعمه الموجودة على الطرق السريعة فأصبح الإقبال ضعيفاً برغم جودة ما يقدمه من وجبات، فتوصل هارلند إلى طريقة وإبتكار جديد لقلي الدجاج تحتاج مدة زمنية قصيرة جداً لتصبح بعدها الوجبة جاهزة وذلك من خلال إستخدام مقلاة مضغوطة.
الأزمات لم تنتهي بعد
في بداية الخمسينيات إصطدم هارلند بصدمة جديدة كادت أن تجعله يفقد مشروع حياته عندما تحول الطريق السريع الذي يقع عليه مطعمه إلى طريق فرعي ما أثر تأثيراً بالغاً في حجم مبيعات المطعم، وكأن هذه المشاكل والأزمات تريد فقط أن تصنع التاريخ لهذا الرجل الصبور، فإضطر إلى العمل علي بيع تراخيص مطاعمه مع خلطته السرية بنظام عقود "الفرانشايز" أو الوكلاء التجاريون المعتمدون، ويحصل مقابل عقد الوكالة هذا على عمولة تقدر بخمسة سنتات عن كل قطعة دجاج يتم إعدادها بإستخدام خلطته السرية في المطعم الوكيل، وتمكن بذلك من الحفاظ على إستمرار خلطته السرية في الإنتشار في مختلف المدن الأمريكية وفي نفس الوقت تحقيق أرباحاً طائلة بدون أن تكون هناك منصرفات تشغيلية أو اي مخاطر تثقل كاهله، ليصل بعد ذلك عدد فروع مطاعم كنتاكي إلى 600 فرع في أمريكا وكندا وكان ذلك بحلول عام 1960.
الثراء ثم الوداع
هذه الرحلة الطويلة من الكفاح المثمر بدأت تقترب من نهايته بعد أن قرر هارلند بيع حقوق ملكية مطاعم "كنتاكي" وخلطتها الشهيرة لرجل أعمال أمريكي بمبلغ 2 مليون دولار في عام 1964م لتنتهي بذلك قصة رجل لا يعرف اليأس ولا تثنيه المشاكل والخسائر، وعقب ذلك بيعت حقوق الملكية لهذه المطاعم لأكثر من مستثمر لتستقر أخيراً وتشتريها كبرى الشركات الإسثمارية في هذا المجال وهي شركة بيبسيكو العالمية في مطلع التسعينيات، ثم أنشات "بيبسيكو" بعد ذلك شركة قابضة جديدة لإدارة مطاعم الوجبات السريعة أطلق عليها أسم "يام براندز" فأصبحت بذلك تمتلك سلسلة مطاعم بيتزا هوت وسلسلة مطاعم هارديز بالإضافة إلى سلسلة "كنتاكي" وكان ذلك في عام 1997 لتتطور بعد ذلك في خدماتها ووجباتها يوماً بعد يوم حتى تربعت على عرش الوجبات السريعة في العالم.
العظة والعبرة
هذه القصة تصلح لأن تكون عظة وعبرة لكل إنسان يريد أن يقف في وجه رياح الحياة العاصفة بقوة وعنفوان .. لكل إنسان يريد أن يبنى حياة مليئة بالنجاح والمثابرة دون أن تقعده العوائق والمشكلات، فالفشل لا يشكل في الأساس نهاية الحياة بقدر ما هو ذخراً وسلاحاً ثم دافعاً لتفادي أسبابه ومسبباته في التجارب المستقبلية، ليتحقق في نهاية المطاف النجاح الكبير الذي يحلم به كل فرد في هذه الحياة .