• المدير العام ( المفوض ) .. عماد شاهين
  • يمكنك الاعتماد على وكالة العراب الاخبارية في مسألتي الحقيقة والشفافية
  • رئيس التحرير المسؤول .. فايز الأجراشي
  • نتقبل شكواكم و ملاحظاتكم على واتس أب و تلفون 0799545577

النمو الاقتصادي في عصر الأتمتة

صفحة للطباعة
تاريخ النشر : 2025-11-08
464
النمو الاقتصادي في عصر الأتمتة

 

م. سعيد المصري

 

* من التوسع في الناتج إلى انكماش الوظائف

بحث تمهيدي حول ظاهرة “النمو بلا وظائف” في الاقتصادات المتقدمة وصداها في المنطقة العربية

مدخل عام: مفارقة النمو دون تشغيل
تشهد الاقتصادات المتقدمة في السنوات الأخيرة ظاهرة لافتة تتمثّل في تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة دون استحداث وظائف جديدة بالوتيرة التي كان يُفترض أن ترافق هذا النمو.
فبينما يزداد الناتج المحلي الإجمالي مدفوعًا بتطور اقتصادات المعرفة والابتكار، تتراجع الحاجة إلى العمالة البشرية نتيجة دخول الأتمتة والذكاء الاصطناعي على خطوط الإنتاج والإدارة والخدمات.

وقد أظهرت تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) والبنك الدولي وشركة ماكنزي أن الأتمتة أدت إلى ارتفاع إنتاجية العمل بنسبة تتجاوز 10٪ في بعض القطاعات، يقابلها انخفاض في التوظيف بنحو 2٪ خلال العام الأول من إدخال التكنولوجيا الجديدة.
وفي الوقت ذاته، تتوسع الفجوة بين الوظائف ذات المهارات العالية، التي تشهد نموًا ملحوظًا، والوظائف المتوسطة والمنخفضة المهارة التي تواجه خطر التراجع أو الاستبدال.

وهذا يعني أن النمو الاقتصادي لم يعد ضمانًا لتوسّع فرص العمل كما كان في الماضي، بل قد يقترن أحيانًا بظاهرة 'النمو بلا وظائف' (Jobless Growth)، التي تتسع آثارها في الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي، وحتى في اقتصادات ناشئة مثل الهند.

أسباب الظاهرة: اقتصاد المعرفة وثورة الأتمتة
يعود جوهر الظاهرة إلى التحول البنيوي في طبيعة الإنتاج، إذ لم يعد النمو يعتمد على توظيف عدد أكبر من العمال بقدر ما يعتمد على تحسين الكفاءة والإنتاجية عبر التكنولوجيا.
فالروبوتات والأنظمة الذكية أدت إلى إحلالٍ واسعٍ للعمالة البشرية، خصوصًا في القطاعات الصناعية والخدماتية المتكررة، بينما انتقلت فرص العمل الجديدة إلى مجالات البرمجة، تحليل البيانات، الذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة — وهي مجالات تتطلب مهارات عالية لا تتوافر إلا لدى نسبة محدودة من القوى العاملة.

وقد أظهر تقرير McKinsey Global Institute بعنوان Jobs Lost, Jobs Gained أن الاقتصادات المتقدمة ستشهد فقدان ما بين 10% إلى 25% من الوظائف التقليدية بحلول عام 2030، يقابله نمو في وظائف جديدة تعتمد على المعرفة والتقنية، ولكن بمعدلٍ لا يكفي لتعويض الفاقد.

رؤية د. معن القطامين: إعادة تعريف العلاقة بين النمو والبطالة
يؤكد الدكتور معن القطامين في حديثه أن العلاقة التاريخية بين النمو الاقتصادي وانخفاض البطالة قد تغيّرت جذريًا.
فكلما ارتفعت معدلات الأتمتة بفعل الذكاء الاصطناعي، زاد النمو الاقتصادي، لكن دون أن يرافقه ارتفاع في معدلات التوظيف.
ويصف هذه الظاهرة بأنها انعكاس للزمن الجديد الذي تجاوز المفاهيم الكلاسيكية في الاقتصاد، والتي كانت تفترض أن النمو هو الطريق الطبيعي لتوسيع فرص العمل.

اليوم، كما يوضح، النمو لم يعد ناتجًا عن توسع القاعدة العمالية بل عن قفزات إنتاجية تحققها الأنظمة الذكية والروبوتات والتحليلات التنبؤية.
فالذكاء الاصطناعي يرفع كفاءة الشركات، ويقلل الكلف، ويضاعف الأرباح، لكنّه في المقابل يقلص الحاجة إلى الإنسان في كثير من العمليات التشغيلية.

ويرى د. معن أن هذا التحول يفرض على الحكومات والمجتمعات إعادة النظر في فلسفة التنمية ذاتها: فبدلاً من التركيز فقط على مؤشرات النمو الكلي، يجب النظر إلى جودة النمو — أي مدى قدرته على توليد فرص عمل حقيقية ومستدامة تُسهم في العدالة الاجتماعية وتحافظ على التوازن الاقتصادي.

الآثار والتحديات الاجتماعية
تؤدي هذه التحولات إلى مجموعة من التحديات الجديدة:
- اتساع فجوة الدخل بين أصحاب المهارات العالية والعاملين في القطاعات التقليدية.
- تراجع حصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي في معظم الدول المتقدمة.
- تصاعد التفاوت الاجتماعي والطبقي نتيجة تمركز العوائد في قطاعات التكنولوجيا ورأس المال المعرفي.
- تغيّر أنماط الاستهلاك والعمل، حيث تنتشر الوظائف المرنة والعمل عن بُعد، بينما تنكمش فرص العمل المستقرة.

هذه المؤشرات تُعيد طرح سؤال جوهري حول مستقبل الإنسان في اقتصاد الذكاء الصناعي، وحول الدور المطلوب من الحكومات في إعادة التوازن بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.

دروس للمنطقة العربية والأردن
رغم أن الظاهرة تبرز بوضوح في الاقتصادات المتقدمة، إلا أن صداها بدأ يُلمَس في المنطقة العربية، خصوصًا في الدول التي تبنت برامج للتحول الرقمي.
وفي الأردن، الذي يسعى لزيادة النمو عبر التحول إلى اقتصاد المعرفة والابتكار، يُعدّ فهم هذه الظاهرة ضروريًا لتجنّب تكرار التجربة الغربية.

فالنمو المطلوب ليس فقط في الأرقام والمؤشرات، بل في فرص التشغيل والإنتاج المحلي القائم على المهارة.
ويقتضي ذلك تبنّي سياسات متوازنة تشمل:
- برامج إعادة تأهيل وتدريب (Reskilling & Upskilling) للعاملين المتأثرين بالأتمتة.
- تعزيز ريادة الأعمال والمشروعات الصغيرة القائمة على التكنولوجيا.
- تطوير شبكات الأمان الاجتماعي الذكية لمواكبة التحولات في سوق العمل.

تطوير شبكات الأمان الاجتماعي الذكية
إن التحولات العميقة التي أحدثتها الأتمتة والذكاء الاصطناعي في سوق العمل تستدعي إعادة تعريف وظيفة الدولة الاجتماعية. فالمفهوم التقليدي لشبكات الأمان الاجتماعي — الذي يقوم على دعم الفئات الفقيرة أو العاطلة عن العمل — لم يعد كافيًا في مواجهة التحولات البنيوية التي تطال الطبقة الوسطى ذاتها، وتعيد تشكيل موازين العمل والدخل والإنتاج.

من هنا برزت فكرة شبكات الأمان الاجتماعي الذكية، أي الأنظمة التي توظف البيانات والتقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي لضمان عدالة التوزيع والاستهداف، وتحويل الدعم من أداةٍ للإغاثة إلى أداةٍ لتمكين الإنسان اقتصاديًا ومعرفيًا.

وتتجسد الشبكات الذكية في ثلاثة أبعاد مترابطة:

1. البعد الرقمي – استهداف دقيق وشفاف
تُبنى الشبكات الحديثة على قواعد بيانات موحدة تشمل الدخل، العمل، الصحة، والتعليم، بحيث يمكن تحديد الفئات المتأثرة بالأتمتة بدقة عالية، وتوجيه الدعم إليها بسرعة وفاعلية.
يمكن هنا توظيف نظم الهوية الرقمية (Digital ID) والذكاء التحليلي لتقدير احتياجات كل أسرة أو فرد بشكل ديناميكي.
هذا النموذج يضمن أن تصل المساعدة إلى المستحقين الحقيقيين دون هدر، ويمنع ازدواجية الدعم أو التلاعب في سجلات المستفيدين.

2. البعد الاقتصادي – من الإعانة إلى التمكين
الغاية من الشبكات الذكية ليست فقط تعويض الخسائر، بل تحويل المستفيد إلى مساهم منتج.
ولهذا، ينبغي أن يتكامل الدعم المالي مع برامج إعادة التأهيل المهني والتدريب على المهارات الرقمية، بما يتيح للعاطلين الانتقال إلى وظائف جديدة في الاقتصاد المعرفي.
بمعنى آخر، يصبح الأمان الاجتماعي وسيلة لتأهيل الإنسان للعودة إلى السوق وليس للبقاء خارجه.
وفي هذا الإطار يمكن إنشاء صناديق استثمارية اجتماعية تموّلها الحكومة والقطاع الخاص لتغطية تكاليف التدريب والتحول المهني.

3. البعد الاجتماعي – حماية رأس المال البشري
تتجاوز الشبكات الذكية فكرة “المعونة” لتصبح أداة لحماية رأس المال البشري الوطني.
ففي مواجهة أتمتة متزايدة قد تهدد التماسك الاجتماعي، تُسهم هذه الشبكات في الحفاظ على الطبقة الوسطى باعتبارها ركيزة الاستقرار.
كما تتيح بناء قاعدة بيانات وطنية تساعد صانعي القرار على تصميم سياسات موجهة نحو تعزيز التكافؤ في الفرص وتخفيف آثار التفاوت التكنولوجي بين الأجيال والمناطق.

نحو نموذج أردني للأمان الاجتماعي الذكي
في السياق الأردني، يمكن لهذه الفكرة أن تُترجم عمليًا عبر تطوير منظومة المعونة الوطنية لتتحول من أداة دعم إلى منصة تنمية بشرية رقمية، تُدمج فيها:
- بيانات العمل والتعليم والتدريب لربط المستفيدين بفرص اقتصادية واقعية.
- مؤشرات فقر متعددة الأبعاد تشمل الدخل، السكن، المهارات، والوصول إلى التكنولوجيا.
- أنظمة إنذار مبكر لتحديد الفئات المعرضة لفقدان وظائفها بسبب التحول الرقمي أو تراجع القطاعات التقليدية.
- شراكات مع القطاع الخاص لتوفير مسارات تدريب وتشغيل ضمن الاقتصاد الجديد.

إن الأمان الاجتماعي الذكي بهذا المعنى لا يُعالج الفقر فقط، بل يدير المخاطر الناتجة عن التحولات التكنولوجية، ويضمن أن تبقى العدالة الاجتماعية حاضرة في قلب اقتصاد المعرفة.

إن ما نشهده اليوم ليس مجرد تحوّل اقتصادي، بل تحوّل حضاري يعيد تعريف دور الإنسان في الإنتاج. ففي الوقت الذي يتسارع فيه النمو بفعل الذكاء الاصطناعي، يبرز السؤال الجوهري: هل نحن نتقدم اقتصاديًا بينما نتراجع إنسانيًا؟ الجواب يعتمد على قدرتنا في تحويل الأتمتة من تهديدٍ للوظائف إلى فرصة لإعادة بناء منظومة العمل والمعرفة على أسس أكثر عدالة وابتكارًا.
أضافة تعليق


capcha
كافة الحقول مطلوبة , يتم مراجعة كافة التعليقات قبل نشرها . :
العراب نيوز صحيفة الكترونية جامعة - أقرأ على مسؤوليتك : المقالات و الأراء المنشورة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها و لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العراب نيوز.